يمثل الشاعر المميز أحمد الصالح (مسافر) واحداً من أبرز رموز الحركة الشعرية السعودية التي استطاعت أن تخرج من فضائها المحلي إلى الفضاء العربي، وقد اكتسب حضوره في المشهد السعودي من خلال عدد من المؤثرات.
أولها: أنها صاحب تجربة مستمرة، فمنذ إبداعه الأول وما زال إلى الآن ناشطاً في مجال الشعر بالمتابعة والكتابة الدورية في الصحف والمجلات وإصدار الدواوين، وكأنه تماماً صاحب (عندما يسقط العراف) الأول الذي عرفناه مشاركاً في التأليف ومشاركاً في الفعاليات المنبرية.
وثانيها: أنه لم ينفصل عن مجتمعه، فجاءت قصيدته ملامسة لوجع الإنسان والمكان والزمان والقضية العربية والإسلامية، حتى يوشك في بعض أشعاره أن يكون تاريخاً مفصلاً لعدد من الأحداث والقضايا التي مرت بالأمة العربية والإسلامية، وتأتي قصيدته بروحه وأحلامه بما يصدّق الناقد الروسي، إذ يقول: (من الناس من يكتب لحكة في أصابعه، ومنهم من يكتب لحكة في عقله وقلبه).
وثالثها: أنه رجل أخلص للفن إلى حد مميز، فلم ينحصر في مناسبة قصيدته الشخصية حتى وإن كانت كذلك ولم يغرق في حدودها، وإنما كتب في فضاء عام كبير، حتى أوشك أن يغطي أغراض الشعر كاملة، وكان - مثلاً - في رثائه مبِّرزاً لم ينحصر في الإطار الخاص بتقديم العزاء فحسب، وإنما حاول أن يَبكي ويُبكي، وقدم قصيدة تحاور الوجع الإنساني وتخلص له.
ورابعها: أن نصه الشعري نص يلتقط جمرة الشعر والفن، ويملؤها بحرارة الموضوع، حتى أغرى ودفع كثيراً من النقاد والباحثين أن يدرسوا نصه من زوايا متعددة، وقد سعدت حين انصرفت إلى دراسة الرثاء في شعر أحمد الصالح، فوجدته لا يبكي فقط، وإنما يبتكر كيفية للبكاء خاصة به، فتحضر مفردات المكان ومفردات الزمان ومفردات القصص القصيرة ومفردات التفاصيل التي لا ينتبه إليها الكثيرون.
وخامسها: أنه شاعر مهما زهد بالأضواء، وابتعد عن التجمعات الإعلامية، ووهج الشمس الإعلامية؛ إلا أنه حاضر بأخلاقه وتواصله مع مختلف المستويات الشعرية والاجتماعية، فلم يعد منفصلاً عن المجتمع بوصفه الشاعر، و إنما اتصل بهمومه واتصل بناسه وأفراده، فتعددت صداقاته وتنوعت، ولم ينفصل عن محيطه الشعري أو عن محيطه الاجتماعي بحجج الآخر، بل جمع هذين المستويين، وقد عشت تجربة لطيفة معه حيث أهديت له ديواني الأول، ففوجئت أنه لم يقبل الهدية فحسب، وإنما تجاوز ذلك، إلى أن قرأت قصيدة كاملة يوجهها لي وينشرها في صفحات الجزيرة، فلم يقل (شكراً للإهداء) فحسب، وإنما تجاوز ذلك إلى صناعة نص خلق دهشة عندي، وعند كثيرين ممن يتابعون شعريته.
بل إنه عندما أشعرته بأنني أتحفز لكتابة دراستي عنه من زاوية الرثاء، وجدته يمدني بما يملكه من معلومات تفيد دون أن يتدخل في اتجاه الدراسة وأبعادها.
أحمد الصالح اسم شعري تفتخر به الحركة الشعرية السعودية، ويؤسفني في هذه الفترة أن أجد عدداً من الشبان الذين اجتهدوا أخيراً في كتابة الشعر، وقد انصرفوا عن قراءة تجارب الرواد، ومنهم أحمد الصالح، وربما يكون العتب أولاً على المؤسسة الثقافية حين أغفلت جوانب من حياتنا الأدبية، وقد يكون العتب على الشاعر نفسه حين ابتعد عن المشهد الإعلامي بالشكل الذي يصل من خلاله إلى مختلف الشرائح، وربما يكون العتب على الحركة الشعرية الحديثة بنموها النقدي في اتجاهات متباعدة، ولكنني أؤمل في ملحق الجزيرة من خلال وعيه الكبير بأبعاد حراكنا الشعري أن يردم الهوة بين مختلف الأجيال الشعرية.
وأخيراً: الموجة الكبيرة التي نراها لا تتحرك إلا حين تدفعها الأمواج البعيدة في عمق البحر.