قسوة الصحراء قد لا تنجب رجالا قساة كما قد نتخيل، قد تنجب عشّاق، «لست أنا من يسكن الصحراء ولكن الصحراء هي التي تسكنني» كما يحب الكوني أن يردد دائما, رواية «التبر» لإبراهيم الكوني عمل مختلف تماما عما اعتدنا قراءته، يعود «عاشق الصحراء» كما أفضّل أن أسميّه بعمل لا بد أن يتضمن رؤيته الأدبية وبصمته الروائية رغم أنه ليس الكاتب الوحيد الذي جعل الصحراء منطلق كتاباته، ولكنه يتميز بأنه ملك نواميس الصحراء تنبع وتتوجه وتصب جميع أفكاره فيها وإليها، في «التبر» علاقة بين إنسان وحيوان ولكن تسلسل الأحداث فريد جدا تجده طبيعيا في البداية لكن في نصف العمل يفاجئنا الكاتب بتحول مجرى الأحداث، مرض الجمل ورحلة البحث عن علاج ثم بيعه ثم بيع زوجته ثم استعادته، ينتسب بطل عمله «اوخيد» إلى الطوارق ذالك العالم المتواري خلف اللثام لذلك أجواء الرواية أمازيغية بامتياز سيكون هنالك إثراء لفظي جميل وصياغة بديعة ذات رائحة أمازيغية.
حكاية العشق.. إنها علاقة عصيّة على الإدراك، علاقة نبيلة، لا يدركها إلا من عايش نفس الظروف، علاقة وفاء وإخلاص وحب, قدّم الروائي إبراهيم الكوني بطل عمله التبر «اوخيّد» كعاشق لكن ليس العاشق المعتاد للمرأة، عاشق من الصحراء
«للابلق» والابلق ما هو إلاّ جمل. أجمل «جمل» قد تراه في حياتك، ووصفها بأنها ليست علاقة أخوّة ولكن أقوى وهي «علاقة الدم».
«لا تودع قلبك في مكان غير السماء.. إذا أودعته عند مخلوق على الأرض طالته يد العباد وحرقته»
هكذا قال الشيخ موسى يوما، ولأن أوخيد أودع قلبه في مهريّة أحرقوا قلبه فاستسلم حين شم رائحة الشياط
أودع قلبه في مهرية لدرجة أنه تخلى عن زوجته وولده من أجله وليس من أجل التبر، ضمّن الكوني أيضا في عمله حرب الإيطاليين على ليبيا والجوع والفقر الذي لحق بالقبائل إبان تلك الفترة لتضيف لعمله أبعادا تاريخية ومنطقية لظروف استغنائه عن «الابلق».
ضمّن العمل لفكرة الخطيئة بين الذكر والأنثى، وأن الأنثى هي سبب كل البلاء المحيط به أو بالابلق.
الجزء الأول من الرواية كانت رحلة البحث عن علاج للأبلق وهنا تتوثق العلاقة وتتضح للقارئ مدى عمقها، والجزء الثاني والأخير هي رحلة استعادة للجمل بعد أن رهنه بسبب الجوع والفقر الذي أغار على جميع القبائل.
أيضا من جماليات العمل الحوارات التي دارت بين الفارس «اوخيد» وجمله كانت أقرب إلى مناجاة عشّاق روحانية «أنا وأنت في طريق الجنون, لا أريد أن أرى جسدك يتساقط قطعة قطعة, سأجن قبل أن تموت, نعم، أنت ستموت وأنا سأجنّ، هل رأيت ماذا يمكن أن تكلف حماقة صغيرة في ساعة صغيرة؟»
لن تشعر وأنت في أروقة صفحات هذا العمل الحائز على جائزة اللجنة اليابانية للترجمة عام 1997م. إلاّ بالسكينة والصفاء والهدوء التي صورها في الصحراء مع جمله بلا زوجة ولاولد، بعيدا عن همّ الحياة ودسائس الناس، ليصور أن الإنسان قد يجد السعادة بصور أخرى عكس ما اعتاد الناس أن يتصوروه ولذلك أبعاد إنسانية وروحية، وتجسيد لأهمية ما قد يضيفه الحيوان في حياتنا إن وجد، وإسفاف لقيمة «التبر» وهو الذهب والمال وأنه قد لا يحمل أي قيمة عندما نوازنه بإنسانيتنا وشعور الحب تجاه أي مخلوق.
أقتبس قول «اوخيّد» (ليس ثمة في الدنيا مخلوق ينافس الجمل في الصبر على الألم الجسدي، وليس في الدنيا مخلوق أضعف من الجمل في تحمل ألم القلب).
والروائي إبراهيم الكوني يقوم عمله الأدبي على عدد من العناصر المحدودة، على عالم الصحراء بما فيه من ندرة وامتداد وقسوة وانفتاح على جوهر الكون والوجود. وتدور معظم رواياته على جوهر العلاقة التي تربط الإنسان بالطبيعة الصحراوية، وموجوداتها، وعالمها المحكوم بالحتمية والقدر الذي لا يُردّ. اختارته مجلة «لير» الفرنسية بين خمسين روائياً من العالم اعتبرتهم يمثلون اليوم «أدب القرن الحادي والعشرين»، وسمتهم «خمسون كاتباً للغد».