(1)
هل يمكن تجديد أيّ خطاب ديني-سياسي أو (فاشي) أو مَن في حكمهما؟ كيف يمكن تجديد الخطاب الإقصائي دون التنازل عن أهدافه الإقصائيّة؟ أيّهما الخطابُ: الأهدافُ أم الأدواتُ؟
إذا افترضنا أنّ الخطابَ هو الشكلُ والأداة فإنّ هذا الافتراض يُسقطُ الغايات والأهداف، حينذاك فإنّ أحداً لا يقدرُ أن يملك تبريراً على رفض الحركات الدينيّة-السياسيّة أو الفاشيّة-المدنيّة، وهو ما يعني الرضوخ للحركات التقسيميّة تحت شرط تغيير أدواتها، كأنّ المشكلة مقصورة على الشكل: (العنف مثلاً!!!) فهل نقبل القاعدة أو الحركات الجهاديّة إذا انتقلوا من هدف الإقصاء عبر أداة السلاح إلى هدف الإقصاء عبر أداة سياسيّة كالديمقراطيّة مثلاً أو أيّ أشكال مدنيّة أخرى مُتاحة ومُباحة في الدول العربيّة: كيف كانت النتيجة في السودان، الأراضي الفلسطينيّة ، مصر!!
وإذا اتّفقنا : أنّ المضمونَ هو علّةُ الخطاب وأساسه، لاقتربنا أكثر من (لا جدوى) الدعوة إلى تجديده؛ كيف يمكن تجديد غايةٍ تريد إقصاء أيّ مختلفٍ وإبقاء تيّارها منفرداً دون بقيّة التيّارات؟ كيف يكون التجديد في مسائل قطعيّة لدى الخطاب الديني-السياسي: كرفض الوطن مثلاً؟
نفهمُ أنّ الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني-السياسي إذا خرجت من داخل دُعاة الخطابِ، فإنّ المسألةَ واقعيّةٌ براجماتيّةٌ: فكلّ فصيلٍ متطرّف لا يتنازل عن وجوده، والبراجماتية ضرورة سياسيّة في حالات التراجع والخسارة، فكيف بمن يملك أرجوحة يتنقّل بها ساعة شاء بين الاعتدال والتطرّف! لذلك ليس غريباً أن تسمع دعوات للتجديد من داخل الخطاب لإبقائه حيّاً؛ أمّا إذا كانت دعوة تجديد الخطاب من خصومه ومعارضيه فإنّها تحمل مخاطر تسمح للإقصائيّين باستغلالها وإبقاء مشروعاتهم تحت السطح السياسي تصيّداً لحالٍ تتقلّبُ فيه الموازين. ولعلّنا -سابقاً- قد تورّطنا بدعوة التجديد بافتراضٍ يفرّق بين مرجعيات الاعتدال والتطرّف، لكنّه افتراض لم يؤيّده الواقع بل أثبت بطلانه، لأنّ الاعتدال في هذه الحركات لا يعدو كونه أداة لأهداف لا تختلف عن أهداف الخطاب المتطرّف، فكلا الخطابين ينطلقان من رفض الدولة، الحريات، التشريع المدني، التعدّد، وكلاهما يفترض امتلاكه لرؤية دينيّة مستمدّة من مرجعيّاته ويسعى لأجل فرضها بالقوّة أو بالطرق السياسيّة المُتاحة والمُباحة. المشكلة ليست في الأدوات فقط، فإذا ما تنازل الخطاب عن العنف قُبِلَتْ أهدافه وأصبحت شرعيّة، لأنّ المشكلة في أساسها هي في أهداف الخطاب الإقصائيّة والاختزاليّة.
ومن هنا أزعم أنّ تجديدَ الخطاب الديني -وما بحكمه- وَهْمٌ من معارضي الخطاب وخصومه، والوهمُ هو افتراضهم أنّ العائق يمكن تحويله إلى مرحلة من مراحل الدخول إلى المعاصرة والعلميّة، والمرحلةُ مضمونٌ يقتضي الإزاحة بالانتقال إلى المرحلة التالية وهو ما يصعب إسقاطه على الخطاب الديني، أو رديفه في الأنظمة السياسيّة التي تستغلّ الدين، وكلاهما عائقان رئيسان من عوائق المعاصرة العلميّة على مستوى الكيانات العربيّة، فتحويلُ العثرة إلى سُلّمة قدرةٌ تقع في مضمون نجاح وإبداع الفرد، لكنّها لا تنطبق على تأهيل خطاب إقصائيّ تمكّن من السياسة وأتباعه وآخرين تأثّروا بمقولاته دون أن ينتموا إليه، وهو تأهيل بطبيعة الحالة لا يُفضي إلى إزالة مخاطر التطرّف والإقصاء التي يحملها الخطاب في بذروه وعلّة نشأته، لأنّ علّة وجوده في مبدأ خطابه قائمة على إلغاء وجود الآخرين فأيّ تجديد في هكذا مضمون وعلّة!! وأقصى قدرته في التجديد يقع في أدواته وأشكال تعاطيه مع المسائل السياسيّة والعلانيّة، لأنّ التجديد إذا حدث على الأهداف وتبدّلت، حينذاك لا يعد الخطاب الديني-السياسي موجوداً، لأنّ الأهدافَ تُحدّد مضمون حامل الخطاب وليس أدواته.
والوهم يقع أنّك تؤجّل الأخذ بالعلم ونتائجه في بناء دولة مواطنين وقوانين إلى حدّ الانتهاء مِن (تجديد الخطاب الديني وإصلاحه) مُفترضاً بتعاقب العلم بعد إتمام الإصلاح، وهذ افتراض صعب التحقّق في واقع لا يستند إلى الناس كمصدر للسلطات والشرعيّة: ولكَ أن ترى الناس مازالت تؤمن بالأبراج وتحضير الجن والأرواح، وهي موروثة من عصر الأساطير، فما بالك بالمنقولات الدينيّة! الحضارةُ ليست منتجاً يخرجُ من خطوط إنتاج صناعيّة تراتبيّة: إذا ما انتهت خطوة تعقبها أخرى، فهذا التطوّر العام لا يُعزى إلى وعي تاريخي: فالتاريخُ ليس عقلاً كي يشرف على استراتيجيات تطوّر الإنسان، إنّما هو قانون التطوّر والانتخاب الطبيعي وقدرة الإنسان على استغلال متطلّبات كلّ مرحلة والعمل على رصد بذرة التطوّر وتكبيرها وتعميمها.
(2)
إنّ الحداثة العلمانيّة، والاعتراف بمتطلّبات العصر وشروطه مسألة سياسيّة إذا ما سنّها التشريعيّون أو السياسيّون أو الحاكمون فإنّك لن تغلب أن تجد العموم يتقبّلونها ثمّ لا يربطه ا الفرد بما تأثّر به ضميره الإيماني من وساوس الخطاب الديني-السياسي؛ ولك في الكثير من الأوامر والقرارات السعودية في إباحة أو تداول أو تعديل أشياء وحالات كان يُحرّمها الخطاب الديني أو يعترض عليها قبل تشريعها وقوننتها؛ بل إنّ المعتدلين منهم (على الظنّ بأنّ الاعتدال يختلف عن التشدّد في مرجعيّاته ومدى قابليّاته للتحوّل من الاعتدال إلى التطرّف في أيّ وقت، طالما مرجعيّاته الفقهيّة تحمل بذور التطرّف والتحوّل في أيّ وقت) وهؤلاء المعتدلون تجدهم أوّل من يذهب إلى المصادقة على شرعيّة القرار السياسيّ، كأنّه يستند لهم، والأمر/القرار يستند إلى شرعيّتين منفصلتين أو مجتمعتين: (القوّة ورضا الناس).
كل ما كان ممنوعاً بالاستناد لمفهوم الحرام الفقهي التأويلي/التفسيري، ثمّ أبيح دون الاستناد إلى تبرير مستند إلى مصدر (التفسير أو التأويل) يندرج تحت قوانين المادة والحداثة. وكلّ ممنوعٍ أو محرّمٍ يباح بالاستناد إلى فتوى شرعيّة من رجال الدين، فإنّ ذلك لا يندرج تحت الحداثة-العلمانية، بل يندرج تحت سعة الفقه، ذلك أنّ الدولة تستعين بفهم التراث وتأويلاته للمصادقة على قوانينها، وهي بذلك وعيت أم لم تعِ قد تخسر شيئاً من قوّتها وسلطتها، لطالما أنّ أساس شرعيّتها مرهونٌ بقوتها ورضا الناس عنها.
(3)
من الضروري هنا، أن نوضح أنّ المنظومة الديمقراطيّة العلمانيّة -في جانبها الذي يعتبر الناس مصدر السلطات- محلُّه التشريعات السياسيّة التي لا تتعارض مع العلم والعلمانيّة وحقوق المعتقد، فليس التصويت محلّه العلم والمادة ومخرجاتهما أو المساس بحقوق الفرد: الحريّة، المعتقد، الملكيّة، الرأي والتجمّع..، فليس هناك تصويت على كشوفات علميّة، أو عمر الكون والمجرّات والإنسان؛ لذلك حينما حاول الدينيّون-الأمريكيّون إعادة تدريس النظريّة التكوينيّة وعمر الإنسان التوراتي، لم تُحال المسألة للتصويت، فالأكثرية الأمريكية تميل إلى النظريّة التكوينيّة التوراتيّة والأقلية تؤمن بنظرية التطوّر والانتخاب الطبيعي، وهي النظرية العلميّة المعتمدة في التدريس، فكان أن أحيلت المسألة إلى المحكمة الدستوريّة والتي حكمت في قضيّتين متشابهتين 1987/2005 بأن تدريس النظرية التكوينيّة غير دستوري. (كتاب داروين متردّداً، ديفيد كوامن، ترجمة: د. مصطفى إبراهيم فهمي، الناشر: كلمات/الهنداوي)
(4)
نعود إلى دعاة تجديد الخطاب الديني من جهة خصومه ومعارضيه، لإثبات استحالة التجديد عبر مسألتين: (مرجعيّات الخطاب الديني، ومدلول القيام بمادة التجديد ومعنى إلزامها): فنحن حينما نقول إنّ أهداف الخطاب الديني السياسي -وإن تعدّدت فصائله واختلفت أشكاله- فإن مضمونه العام واحد: (السيطرة الأحاديّة على السلطة)، ونحن في هذا الاتفاق نتّفق ضمناً أيضاً: على وجود أشكال عديدة لهذا الهدف الديني-السياسي، و المعضلة: عن أيّ خطاب ديني-سياسي (سنيّ، شيعيّ) نريد تجديده: (القاعدة، الإخوان، السلفيّة، ولاية الفقيه..؟؟؟) فلكلّ خطابٍ مدوّنتُهُ الانتقائيّةُ، ولكلّ فريق أتباعه الحركيين وجمهوره الشعبي. فإذا عدنا إلى المدوّنات الانتقائيّة السنيّة مثلاً: فأنت لا يمكنك التحاور مع هؤلاء دون تعديل مفهومهم للتراث، وهذا العمل المضني الشاق، ليس مضمون النتائج. وتمثيلاً: عليك أن تلغي الناسخ والمنسوخ (ليس من عقلي وعقلك، ولدينا عشرات الحجج على بطلانه)، ولكن هل تقدر أن تلغيه من التراث حتى تحرّر تابعي (فكر القاعدة والإخوان والجهاديين)، الذين يستندون إلى هذه المدوّنة التراثيّة في حروبهم المعاصرة، فانظر إلى الناسخ والمنسوخ وعلاقته بما درجوا على تسميته: (آية السيف)، إذ يدّعي كتبة التراث أنّها ألغت عشرات الآيات في المتن القرآني من آيات الحريّة العقديّة والمشيئة الإيماني والتعايش والسلم وحق الاختلاف؛ هل يمكن العودة إلى الماضي وشطب مدوّنته المؤثّرة على الحاضر أم يمكن للحاضر نفسه أن يتجاوز الماضي!
مَن هو المؤهّل لممارسة التجديد؟ وتجديد ماذا وكيف نجدّد التراث، والتراثُ حدثٌ وتاريخٌ باقٍ على هيئته كما تمّ تدوينه: (تزويراً، إنصافاً، بعض جوانبه، مبالغةً..)؟ من يعتمد مادة التجديد: الدولة؟ المؤسّسات المدنيّة؟ الجماعات الدينيّة؟ (هكذا لم نبرح مكاناً، ولم نحلّ إشكالاً، إذ نصل إلى اتفاق جمعي بالإكراه على صورة موحّدة منتقاة للتراث نريد أن نفرضها على تابعي الخطاب الديني-السياسي)، وهو على استحالته، لكنّه إن حدث أو على افتراض حدوثه فإنّه عين التطرّف؛ ولعلّ النجاح في هذا التدبير لا يختلف عن ولادة مذهب جديد يريد أن يفرض رؤيته بالقوّة على الآخرين؛ وهكذا لا تختلف نتائج مشروع دعاة تجديد الخطاب الديني عن دعاة الخطاب نفسه. لذلك فإنّ: (أ) مسألة تعدّد أدوات وانتقاءات الخطابات الدينيّة وارتباطاتها بالتراث، (ب) ومسألة نشر برنامج التجديد والتأهيل، مسألتان لا يمكن تحقيقهما إلاّ بخطابٍ يحمل بذور التطرّف عينها الت ي من أجلها كان هذا التدبير، وهما مسألتان تفسدان حجّة الضرورة إلى تجديد الخطاب الديني-السياسي، وهذا ما يؤكّد أكثر أنَّ الحلَّ ليس دينيّاً.
(5)
الحلُّ ليس دينيّاً، فالدينُ حقٌّ يخصّ الفرد، وتحميل الدين أمور سياسيّة متقلّبة يجرحه ويزوّر ما تبقّى من معانيه الأصيلة الفرديّة الأخلاقية، الانضباطيّة، الإيمانيّة، الرجائيّة والخاصّة جميعها بالفرد وحريّته ومعتقده الحميم.
الحلّ ليس دينيّاً، وأيّ مَن يدعو إلى تجديد الخطاب الديني-السياسي فقد وقع فيما يعارضه، حيث قدّم للخطاب طوق نجاة أن يبقى إذا ما عدّل من شروط وجوده، ولكم سهل تعديل الخطاب في فترات الضعف ونقله من التطرّف إلى الاعتدال، بل، وإلى المسكنة والمظلمة؛ انظر إلى الخطاب الديني-الشيعي/العراقي وانفجاره من المظلوميّة إلى التطرّف بين تعدّل عصرين سياسيّين، وكذا حال المظلوميّة السنيّة الإخوانيّة في مصر وانقلابها إلى التطرّف عند تبدّل الظروف، وكذا لن تغلب أن تجد أنّ العديد من الحركات الأصوليّة المتطرّفة أصلها حال نشوئها في العلن كان الاعتدال والتوسّط وإذا ما تمكّنت نفّذت أهدافها.
الحلّ محض سياسيّ وثقافي، والمسألة: (أنّ الناس على دين ملوكهم في الدول التي لا يكون الناس فيها مصدر السلطات)، فإذا ما تمّ تشريع العلم والاستناد إليه بفصل رجال الدين عن السياسة والتعليم، وعُولجت مقولات الخطاب الديني على مستوى التشريع والتنفيذ، فإنّ الإصلاح يُؤتى أكله.