إن اللغة تنفث الحياة في النص الروائي، وتمنح السرد بحبوحة من التعابير التي تجعله ينساب على صفحات النص، وباللغة يجعل الروائي من نصه أنشودة يطرب لها القارئ و المتلقي، وإذا فقد النص الروائي هذه الخاصيّة التقنيّة المهمة في الرواية فإنه فقَدَ نصف عمله الإبداعي.
وفي هذا المقال أخصّ اللغة بالنقد في رواية فرانكشتاين في بغداد باعتبار اللغة أسلوبا وألفاظا، وقد ألمحتُ في الجزء الأول من هذين المقالين إلى عنصري الرواية المهمين لبروز الإبداع الأدبي وهما :(الفكر واللغة)، وإذ إني آثرتُ المقال الأول لبراعة الروائي في أفكاره ضمن نصه الروائي فها أنذا أعرّج على العنصر الثاني لتميز العمل الإبداعي وهو اللغة.
أعتقد أن الروائي في رواية فرانكشتاين في بغداد قد انشغل بأفكاره وسرده الإبداعي عن لغته الروائية حتى أضحت الرواية لا تحظى إلا بنصيب ضئيل من التميز اللغوي في أسلوبه السردي وفي ألفاظه، ويظهر هذا من خلال قلة المجاز وندرة التشبيه والغرق في اللغة الحقيقية الواضحة دون استعارات أو كنايات ويتأكد هذا في الجزء الأول من الرواية فيما يقارب الخمسين صفحة الأولى منها، ولعل أفكار الرواية التي تعمقت في قهر الإنسان بالقتل والتفجير كان لها الأثر في هذه الحقيقة اللغوية إذ جعلت الروائي يكتب وهو مستحضرٌ هذا الألم وهذه الفواجع التي تدك الإنسان حتى جعلته لا يأبه باللغة تحسينًا وتدقيقًا. ومن هاته السقطات اللغوية في أسلوبه السردي ما نراه من تكرار (كان) خمس مرات في صفحة واحدة، وكذلك تكراره (لكنه-تم) في سطرين مرتين.(رواية فرانكشتاين في بغداد ص20-29-31)
ونلحظ هذا التكرار أيضًا في أسلوبه اللغوي حينما يكرر (المعرفات بأل) في جملة واحدة متتالية في قوله:»الأسمر النحيف المتزوج»، وهذا التكرار ينمّ عن تفلت اللغة من الروائي حال السرد حتى إنه يلجأ للتكرار ليسد الفراغ اللغوي حال سرده للأحداث؛ وقد قدّمتُ أن الانغماس في السرد كان سببًا واضحًا لهذا الضعف اللغوي في الرواية. (رواية فرانكشتاين في بغداد ص43).
ومن صور تكراره التي سببت شرخًا في السرد حتى إن القارئ سيضطر للتمهل في قراءته حينما يصل عند هذه الجملة وهي تتالي التكرار في (النكرات) عند قوله: « ظل واقفا عند ركن بيع محل أدوات بناء « إن هذا الأسلوب اللغوي يُحدث اضطراباً في السرد ويحيله إلى تشتت يشي بأن الروائي لم يستطع أن يُحكم أحداثه باللغة. (رواية فرانكشتاين في بغداد ص29)
ومن أساليب الروائي اللغوية المضطربة ما نراه من بعدٍ في العلاقة بين المشبه والمشبه به في بعض تشبيهاته النادرة مما يدل على ضعف لغة الروائي، حتى إنه وقع في أخطاء نحوية كما سيأتي لاحقًا، ومن أمثلة هذه التشبيهات الرديئة ما نقرأه في قوله :» حضرت هذه الجملة في ذهنه... وكأنها ثقبت رأسه فجأة مثل رصاصة نزلت من الأعلى»، في هذه الجملة التشبيهية إشكالان: تشبيه حضور الجملة في ذهنه بثقب الرأس باستخدام كأن بمعنى أنها قد تكون ثقبت ذهنه وقد لا تثقبه، وتشبيه حضور الجملة للذهن بالثقب في الرأس بسبب رصاصة إنما يدل على موت، والموت لا يمكن أن نجعله تشبيهًا بالحظ الإيجابي الذي صار حينما جاءته هذه الجملة الإيجابية . (رواية فرانكشتاين في بغداد ص255)
وجملة أخرى تشبيهية تنبئ عن علاقة بعيدة بين المشبه والمشبه به وذلك في تشبيهه لحديث أبي سليم مع الضابط حينما جاء للتحقيق معه وهو في المشفى بالماكينة التي اشتغلت بسبب عطل يمنعها من التوقف، ونحن نعلم أن العطل في الماكينة يمنعها من العمل لا من التوقف عن العمل، ولذا فإن هذا التشبيه يحيلنا إلى ضعف لغوي وقع فيه الروائي مما أضعف استحضاره للعلاقة بين المشبه والمشبه به. (رواية فرانكشتاين في بغداد ص306)
وامتدادًا لهذا الضعف اللغوي ما نلحظه من أخطاء لغوية نحوية في بعض الألفاظ -وهي قليلة- كما في قوله :(ذات الغرفة) والصحيح الغرفة ذاتها لأن التوكيد يكون بعد المؤكد، وكذلك الخطأ النحوي في قوله :( للجنتان) والصحيح للجنتين مجرورة بالياء، وأيضًا مثل خطئه في قوله :(استعدل) والصحيح اعتدل لأن السين والتاء تدل على الطلب. (رواية فرانكشتاين في بغداد ص75،252،8) وأعتقد أن الضعف لو اقتصر على ما أوردتُه من أمثلة لما صحّ وسم الرواية بالضعف اللغوي لكنه امتد إلى السرد الغارق في اللغة الصريحة البعيدة جدًا عن الجمال اللغوي بالمجاز من استعارات وتشبيهات وألفاظ جمالية، لكننا نستطيع أن نلتمس عذرًا لهذا الضعف اللغوي في السرد فضلًا عن الضعف في الأمثلة السالف ذكرها للعمق الفكري الذي قدمّنا له في الجزء الأول من هذه الدراسة النقدية. ولإيماني بأن العمل الإبداعي الأدبي والروائي خصوصًا يقوم على اللغة و الفكر آثرتُ أن أقدّم هذه الدراسة.