Saturday 14/06/2014 Issue 442 السبت 16 ,شعبان 1435 العدد
14/06/2014

الدنان المترعة!

(أين رجلي، أعيدوا لي رجلي).

هكذا كان يردد (زاهر المعلول) وقت إذ مدّ يده، ليحك موضع تنمل شديد في أصبع قدمه اليمين.

انحنى كسبابة معقوفة نحو الأمام، ولم يجد لقدمه أثرًا، علم على بعض من الصحوة وبعض من خدر في الوعي، إنه الآن بلا قدم...

السطور السابقة (أعلاه) مفتتح رواية (المغزول) للروائي/ عبد العزيز مشري رحمه الله.

ولست أدري، لماذا تداعى إلى ذاكرتي (عروة) وهو الاسم الذي سمى به الروائي الراحل عبد العزيز مشري صديقه وصديقي الحميم الشاعر الرائع الصديق / علي بافقيه ؟، وسماه بهذا الاسم تيمناً باسم الشاعر عروة ابن الورد، وأطلقه عليه ولهذا الاسم حكاية ظريفة تروى، فالغريبان غربة البدن وغربة الروح، كانا يسكنان معاً في المنطقة الشرقية في مطلع الثمانينيات الميلادية، وجمعتهما الظروف والحروف والأصدقاء، فأولهما الشاعر علي بافقيه القادم من مكة المكرمة، وكان طالباً في جامعة البترول، والآخر الروائي عبد العزيز مشري القادم من قريته (محضرة) بمنطقة الباحة، وكان يعمل مصححاً في جريدة اليوم، وكان الشاعر علي بافقيه يحب الشاعر عروة بن الورد الشاعر المعروف، وما زال يحبه كما جاء في لقاء أدبي معه، حينما قال: تمثلته في مرحلة من حياتي لدرجة الاختلاط، ولا أزال اعتبره أبي وشيخي وصديقي..

والراحل عبد العزيز مشري، كان لديه ولع بإعطاء الأصدقاء أسماء جديدة، تضاف إلى أسمائهم الأولى، وقد منح الصديق محمد القشعمي على سبيل المثال اسماً يعرف به (أبو الأمة)، والاسم يأتي مشتقاً من كنيته (أبو يعرب) ولأن القشعمي، كان وما زال حفياً بكل الأصدقاء، فقد نال الاسم واللقب للدلالة على دوره الثقافي المبهج، وربما يفعل عبد العزيز مشري ذلك، انطلاقا من مشروعه الكتابي الروائي، فيسمي الأصدقاء كما يسمي شخوصه الروائية، بناء على تراكمات معرفية في داخله، ويمكن تأمل دلالة اسم (زاهر المعلول) الذي ورد اسمه في هذا المقطع القصير، ومن هنا – نعود إلى حكاية عروة، حينما أراد الشاعر بافقيه أن يجمع قصائده في ديوان، أكتشف أنه قد فقد بعضها وضاع الكثير منها، وبطبيعة الحال فإن عبد العزيز مشري، أطلع على قصائد الشاعر وعاش تجربة ولادتها، ويعرف إيحاءاتها ودلالتها وكيفية تشكلها، فعرض الشاعر على صديقه الروائي، مسودة القصائد التي سيشملها الديوان الجديد، فكانت المفاجأة أن الصديق الروائي، لم يجد قصيدة (عروة) بينها، فثارت ثائرته وهو يصيح بعلي (أين عروة) يا عروة ؟، فأسقط في يد الشاعر / على بافقيه، لأن النص المفقود من ضمن القصائد الضائعة، ولكن الصديق الروائي فجأة، أخرج النص من بين أوراقه، وكان يحتفظ بالنص الذي أضيف لقصائد الديوان الأول، وتتصدر قصيدة (عروة) قصائد الشاعر الرائع الجميلة!!

كان عروة يسكن بين القصيدة والسيف

يهجع في لحظة ألف عام

وألفاظه تتناسل بين الرموش

وبين المقيمين في الخسف

عروة يرحل مع خاطف البرق

يهجع في وهجه ألف عام

وسلمى تناديه يسمع خيلاً

وسلمى تناديه يسمع نخلاً

وسلمى تنادي يسمع برية شاسعة

كان عروة يرمي مقاطعة للرياح الطليقه

عبس تنام وعروة يلقي قصائده

للنجوم البعيدة

والليل أطول

عروةُ يرسم بريَّة

ويلملمها بفؤاده

ورسول الخليفة يهمس في أذن عروه:

شيخنا يطلب اليوم سيفك/حرفك

هيا معي

فالجفان

مُمرِعه

والدنان

متْرَعه

وعروة حدَّق في وجهه ألف عام

وذهب الشاعر في رحلة دراسية إلى أمريكا، وحدثت التحولات ولعبت الأقدار لعبتها، لما تباعد المسافات بين الأصدقاء والمحبين، ولكن تبقى الذكريات الجميلة حية، محفورة في الوجدان والقلوب والذاكرة، ورحل حبيبنا الروائي المبدع عبد العزيز مشري مع سلسلة من الأمراض، أصابته ولكنها لم تقعده، ولم تكن حاجزاً له عن مواصلة إبداعه، وحول عالمه وأوجاعه إلى نصوص إبداعية، تمنح الإنسان القوة والتفاؤل بمعنى الحياة.

ويذكر القارئ لعالم عبد العزيز مشري الروائي، أنه أصيب بمرض السكر في وقت مبكر من حياته، وأدت مضاعفات المرض والعقاقير الطبية إلى التأثير على بصره واختلال توازن حركة المشي، وتبعها الفشل الكلوي واضطراره إلى الغسيل الكلوي المنتظم ثلاث مرات في الأسبوع متنقلاً بين مستشفيات المملكة، أجريت له عملية زراعة الكلى في مستشفى الملك فهد بجدة، ليستعيد تألقه ويكتب العديد من النصوص، وهو بهذه الحالة المرضية في السنوات الست الأخيرة من عمره، ولعلنا على سبيل الدلالة نذكر (الزهور تبحث عن آنية) ولكن مرض الغرغرينا، بدأ يغزو أطرافه فتم بتر أصبع من يده اليسرى، ثم بترت القدم اليمنى، وتفاقم المرض ليتم بتر ساقه اليسرى كاملة.

وهنا – تأتي حكاية الساق بتر ساق عبد العزيز رحمه الله، كما جاء في المقطع الذي جعلته مفتتحاً لهذه السطور، والشاعر الذي عاد بعد غربة دراسية من رحلة أمريكا، يعلم أن صديقه الروائي مريض، أصبح نزيلاً دائماً لغرف المستشفيات، وزبوناً وفياً لمشارط الأطباء، لكنه حتماً لم يكن يتوقع في زيارة له بعد وصوله مباشرة من أمريكا، ولا يعلم أن المسألة وصلت إلى حد بتر أطرافه، فوجده أثناء زيارة له يبكي من الوجع، ولم يحتمل قلب الشاعر أن يرى صديقه يتوجع، فأنحنى عليه مشفقاً ومتألماً معه، وكأن الآخر ممدداً تحت شرشف أبيض، وقال له هيا يا عبد العزيز، اتكئ على كتفي وقم بنا لنخرج، فتوقف الآخر عن البكاء، ورفع رأسه في وجه صديقه الشاعر، قائلاً: ولكنهم بتروا ساقي يا عروة..!!

وجوه مضيئة

دكتور حسن حجاب الحازمي، هذا الفارع جداً في سمو حقول السرد بلا ضجيج، يعدُ ذاكرة الدقائق لعوالم السرد المحلي، بلا إدعاء وجوقة من المهللين له في كل خطوة، لينصبوه في احتفالية عراباً وحيداً، يغذي تصحر النقد للعالم السردي والروائي بالذات حينها، وقد أنجز دراسة عن البطل في الرواية السعودية، وتبعتها دراسة أخرى عن البناء في الرواية السعودية، وتجاوز التصنيفات لهذا الفن الشمولي بوصف الرواية -الآن- الجنس الأدبي الأكثر حضوراً، كما تنبأ بذلك في دراسة أخرى في مرحلة مبكرة، لتصبح تينك الدراستين الآن مرجعاً للباحثين في عالم الرواية .

ميزة هذا الإنسان الخلوق الذي يتحلى بأخلاق الكبار فناً وخلقاً وعلماً، أنه ظل بعيداً عن ميدان السباق والمزايدات الرخيصة، ولم يسعَ إلى كل ميدان وجنس أدبي ليعلن عن حضوره، ولكنه عمل ليجعل الأعمال، هي من يتحدث لما تضئ الدروب للأجيال بالمعرفة والمحبة.

- الرياض