لأن العالم الأنجلوسكسوني في بريطانيا وأمريكا يقوم على مبدأ السوابق القضائية كجزء من نظام القانون العام (Common Law System) .. فإنه من الطبيعي أن يكون للقضاء عملياً دور مهم في التشريع نفسه وفي سن الأنظمة والأقضية والتشريعات. ولكن في العالم اللاتيني الآخر والعالم العربي والإسلامي فإن فكرة السوابق لحد ما لاتحمل ذات التأثير والأهمية.
في ذات الوقت.. هناك باحثون ودارسون من بريطانيا وأمريكا يأخذ منهم الوقت والجهد مبلغاً كبيراً لكي يفهموا ذلك النظام المختلف في العالم الإسلامي خصوصاً حينما يقعون ضحية الانفصام النظامي. فهم من جهة يدرسون الفقه الإسلامي المدون لكي يفهموا الأنظمة القضائية وفي ذات الوقت يريدون أن يفهموا كل ذلك ليطبقوا فكرة السوابق القضائية على نظام قضائي وتشريعي لايلتزم بالمنهجية المدرسية والفقهية للأحكام الفقهية المدونة بطابعها التقليدي وطريقتها القديمة.
وإلى جوار كل ذلك يجدون خليطاً من القانون المدني والأنظمة في مجالات مختلفة.. وإذا نظرت للقضاء فإن مستوى الإلزام والتنفيذ لايجلعها تؤخذ كأنظمة حقيقية مع وجود تلك اللجان والمحاكم المختلفة التي بدورها تختلف في مستوى التزامها بالأنظمة من جهة أو بالأحكام الفقهية المدونة من جهة أخرى.. فضلاً عن اهتمامها بالسوابق القضائية في نفس الاختصاص.
عموماً .. مايهمني هنا هو كيف يدرسون الفقه الإسلامي تحديداً.
الباحثون الأمريكيون بطبيعة دراستهم المعتمدة في غالب جامعاتهم وبالذات الأمريكية على المنهج السقراطي ودراسة السوابق القضائية كمصدر أساسي لمعرفة القانون.. يجدون أنفسهم حين يبحثون في الأنظمة والدول والتشريعات الأخرى مدفوعين بتلك الروح الإمبريالية لتعميم النموذج الأنجلوسكسوني (على جودته طبعاً) على كل مجالات بحثهم في الدول والأنظمة القانونية الأخرى، لذلك فباحثون كثر حين درسوا الفقه الإسلامي والتشريع الإسلامي وجدوا أنفسهم بين خيارين تحولت تقريباً لمدرستين ضمن مدارس أخرى مختلفة في دراسة المستشرقين للفقه الإسلامي. المدرسة الأولى:
المنهج العلمي في دراسة الفقه الإسلامي.. وهو حينما يدرس مستشرقون أمريكيون وغرب عموماً الفقه الإسلامي بشكل تجريدي ونظري كماتم طرحه من الفقهاء على أساس أنه «علم» .. ويتم تقديم ذلك على أساس أنه هو المادة الأساسية لكل من يحيل تشريعه أو جزءاً من تشريعه للفقه والشريعة الإسلامية، وبالتالي فإن أصحاب هذه المدرسة قد يختلفون بين من يقدم الفقه الإسلامي بغزارته وجودته وبين من يحاول مسخه إلى أشتات مختلفة ومتفرقة لاتسمن ولاتغني من جوع لكي يبرر القانون المصنوع إنسانيا (Men-made Law) . ويمكن بهذا الإطار العام على اختلاف مناهجهم يمكن تصنيف أغلب الدراسات الاستشراقية في الفقه الإسلامي تقريباً مثل شيرمان جاكسون ووائل حلاق وآخرين كثر.
والمدرسة الأخرى هي المدرسة الواقعية في دراسة الفقه الإسلامي، هذا المنهج الواقعي يرى ببساطة أن الفقه الإسلامي التقليدي المدوّن والمتداول بشكله المدرسي لم تعد له أي قيمة (قانونياً) مالم يتم تشريعه بشكل واضح أو إدخاله في سابقة قضائية ما. لذلك يجهدون في البحث عن القانون الإسلامي الواقعي المطبق ويقدمون ذلك على أساس أنه هو «الفقه الإسلامي» بغض النظر عن التراث والجدل الفقهي النظري حول المسألة أو الحكم. وفي هذا الإطار يمكن تصنيف عدة باحثين قدموا نقداً جذرياً للمدرسة العلمية مثل لمى أبوعودة، ولأن المدرسة الواقعية تعني فيما تعني أن مايتم تطبيقه والعمل به هو القانون الذي ينبغي دراسته فإن حيدر حمودي –مثلاً- سخّر عدة دراسات لتقرير أن القانون له صفات محددة ودقيقة لايمكن تطبيقها على الفقه الإسلامي النظري بمعناه التجريدي والقروسطي.
وفي هذا الإطار .. حاول باحثون قريبون من هذه المدرسة إعادة قراءة الفقه الإسلامي في التاريخ ولكن هذه المرة ليس عبر النظريات الفقهية والمدونات وفقهاء المذاهب وجدلهم وأحكامهم .. ولكن عبر القانون «الإسلامي» المطبق في أغلب التاريخ الإسلامي باعتبار أنه هو «الإسلامي» عملياً. وسمي هذا النوع من البحث «القانون الإسلامي عملياً» وفي هذا سمت الباحثة «كريستن ستيلت» كتابها التي بحثت فيه أحكام المحتسب في التاريخ الإسلامي وقدمت التاريخ المملوكي ودور المحتسب فيه كظاهرة مهمة. ولكنها قدمته من خلال القضايا الواقعية عبر رصد وتدوين قضايا واقعيةكثيرة حصلت فيمايتعلق بعمل المحتسب.. ودرست «فقه الاحتساب» من خلال تلك الأقضية.. وسمت هذا النوع من البحث الإسلامي: «القانون الإسلامي عملياً» (Islamic Law in Action).
ومع الفائدة المهمة لمثل كل تلك البحوث إلا أن هذا المنهج وتلك المدرسة ينبغي ألايستلبها النموذج القضائي الأمريكي في فهم التشريع الإسلامي فواقع الفقه الإسلامي وأحكامه وأقضيته أعقد من أن يتم اختصارها في القانون العملي أو حتى في نظريات فقهية في مرحلة ما.