تبدو مفردة تنوير جميلة بحسب الدلالة اللغوية، باعتبارها صيرورة طبيعية لتطور ونهضة المجتمعات وتراكم رصيدها المعرفي، ونمو وعيها الإنساني، ما يدفعها بالضرورة إلى تجاوز دوائر الجهل، التعصب، ضيق الأفق، والانطلاق إلى أفق إنساني رحب.
غير أن ارتباط هذه المفردة بحمولة تاريخية، وكون مصطلح التنوير في نشأته التاريخية يحيل لاستغناء الإنسان بالعقل عن الدين جعلها محل صدام وعدم تقبل. وهنا ينبت سؤال، لماذا علينا أن نستعير مصطلح الآخر، ونحاول سحبه وإسقاطه على فعلنا وخطابنا الثقافي رغم عدم انسجامه دائما معه بحسب ما نردد؟
فمفردة تنوير في «ويكيبيديا»، مصطلح يشير إلى نشوء حركة ثقافية تاريخية قامت بالدفاع عن العقلانية ومبادئها كوسائل لتأسيس النظام الشرعي للأخلاق والمعرفة (بدلا من الرب والدين. ومن هنا نجد أن عصر التنوير هو بداية ظهور الأفكار المتعلقة بتطبيق العلمانية. ورواد هذه الحركة كانوا يعتبرون مهمتهم قيادة العالم إلى التطور والتحديث وترك التقاليد الدينية والثقافية القديمة والأفكار اللاعقلانية ضمن فترة زمنية دعوها «بالعصور المظلمة».
وأن التنوير حركة فكرية حدثت خلال مرحلة مهمة من تاريخ أوروبا الحديث في القرنين 18 و19، قام بها الفلاسفة والعلماء، الذين نادوا بقوة العقل وقدرته على فهم العالم وإدراك ناموسه وقوانين حركته. واعتمد التنويريون على التجربة العلمية والنتائج المادية الملموسة بدلا من الاعتماد على الخرافة والخيال.
فهل جميع مثقفينا الذين تشغل هذه المفردة مساحات غير قليلة من منجزهم وأحاديثهم يقولون بذلك؟ بالطبع لا.
فالمفردة باتت تتردد في أوساطنا الثقافية بكثرة في السنوات الأخيرة وبشكل لافت، لكن للأسف عادة دون تحديد مسبق لمفهومها أو الالتفات إلى ما يمكن أن تحيل إليه حمولتها التاريخية الملتبسة في الخطاب العربي المعاصر.
فمعرض الكتاب لدينا بات يوصف بأنه فعل تنويري، كما توصف عدد من دور النشر بأنها تنتهج نهجا تنويريا. وكذلك توصف الرواية. تقول الدكتورة هويدا صالح في معرض حديثها حول الرواية بأن الرواية: استطاعت أن تنفتح على وسائط جديدة، وحقول معرفية مختلفة، فلم تعد مجرد سرد حكايات وحواديت دون معرفة، مما أكسبها رصيدا فكريا متنورا أضفى عليها بعدا جمالي.
وفي الوقت الذي يقول الكاتب شتيوي الغيثي في مقاله «معرض الكتاب بوصفه تنويرا»، بأن معرض الكتاب في الرياض أهم مشروع تنويري حتى الآن في السعودية، معللا السبب بأنه كسر احتكار الخطاب الديني وهيمنته على العقول في سنوات مضت قاربت الثلاثين عاما، لذلك حاربوه.
يورد الدكتور صالح زياد عبر مقدمة كتابه «الرواية العربية والتنوير»، الذي صدرت طبعته الأولى قبل نحو عامين وصدرت طبعته الأخيرة مؤخرا حديثا طويلا يبدو في ظاهره أقل صدامية وأكثر مواءمة من غيره في تبيين أبعاد هذه المفردة وتعريفها. فالتنوير كما في كتابه بحسب إيمانويل كانت : خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدامه لعقله إلا بتوجيه من إنسان آخر. ويحصر كنت أسباب حالة القصور تلك في السببين الأساسيين التاليين : الكسـل والجبن ! فتكاسل الناس عن الاعتماد على أنفسهم في التفكير أدى من جهة إلى تخلفهم، ومن جهة أخرى هيأ الفرصة للآخرين لاستغلالهم، وذلك بسبب عامل الخوف فيهم.
وعرف زياد التنوير بأنه: وعي التقدم وقيم المدنية الحديثة التي تحتفي بالحرية والفردية والمعرفة والحقوق الإنسانية وتدافع غوائل التسلط والاستبداد والوصاية بأي معنى. مؤكدا بأننا يمكن أن نفهم علاقة الرواية بالتنوير من خلال خصائص الرواية النوعية، ومن خلال سياق تشكلها وفعلها التاريخي الثقافي في الأدب العالمي وبخاصة الأوربي الذي نبعت منه، وفي الأدب العربي على حد سواء.
وفي أمسية أقيمت قبل مدة حول التنوير وتاريخه في نادي الرياض الأدبي، رأى الأديب عبدالله الشهيل بأن «العرب لم يعيشوا تنويراً بل نهضة انتكست، وأن كل من حاول التجديد التنويري اتهم بتهم كثيرة منها الماسونية، كما حدث لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده»، وهذا برأيي نتاج تصدير مصطلح لا يخلو من حمولة تاريخية.
فلو تأملنا عنوان كتاب مثل « معارك التنويريين السعوديين لمحو الظلام»، أيا كان مفهوم كاتبه لمفردة تنوير وما تضمنه محتواه، نجد بأن عنوانه قد يكون مستفزا للبعض بسبب عدم التحديد المسبق لدينا لمفهوم التنوير، ما يؤكد مدى حاجتنا لنحت مصطلحاتنا المعرفية والثقافية الملائمة لخطاباتنا بمنأى عن المصطلح الغربي ودلالات نشأته وسياقه التاريخي وإحالاته اللادينية في بعض الأحيان أو غير المنسجمة وخطاباتنا الثقافية والفكرية.
وفي حال كان لابد واستهلاك مثل هذه المصطلحات لسبب أو آخر، فحري بنا تحديد مفهومها للمتلقي مسبقا قبل شروعنا في الحديث عنها.