لاشكّ في أنّ الهويّة مفهوم علاقاتي، فهويّتنا تتشكّل بعلاقاتنا مع المحيط، وبالتفاعل مع ما هو خارجنا، لذلك فهي تتغيّر باستمرار، ولا يمكن أن تحدّها حدود ثابتة، إلاّ إذا توقّفنا عن التفاعل مع العالم، واكتفينا بما ورثناه عن أسلافنا من محدّدات لتلك الهويّة. وهكذا تشكّلت هويّة المرأة عموماً، بعلاقاتها مع ما هو خارجها، ذلك الخارج المحدّد بالعرف، والتقاليد، والدين، والخصوصيّة الثقافيّة، فانفتح عالمها على الداخل، أكثر من انفتاحه على الخارج، وتشكّلت هويّتها نتيجة علاقاتها مع أعماقها ومشاعرها، وعوالمها الداخليّة، وعلاقاتها مع من حولها، من بشر وأشياء.
يمكن القول إنّ معمار المرأة العربيّة النفسيّ، أشبه ما يكون بالعمارة الإسلاميّة، ولا شكّ في أن علاقة جدل تربط بين المرأة التي نشأت في النسق الثقافيّ العربيّ المسلم، وبين العمارة فيه، فالمرأة مثل البيت العربيّ الإسلاميّ الذي تنفتح شرفاته على الداخل، ممّا يجعلها ترى الخارج من خلال مشربيّة، تمكّنها من التلصّص. هو بيت بلا شرفات لتقف عليها واضحة، ومكشوفة، وواثقة من أنّها ترى العالم، وأنّ العالم يراها في الوقت ذاته.
لذلك دارت خطابات المرأة عموماً عمّا تعرفه، عن التاريخ الداخليّ، تاريخ البيت ومتعلّقاته، أمّا دوائر التاريخ الأبعد، من مثل تاريخ المدينة، والدولة، والأمّة، فقد صاغها الرجل، بخطابه الخاصّ، وصاغ هويّته وفاقاً لذلك التاريخ، الذي شارك في صنعه بالعمل، والحرب، والنضال، وكان شاهداً على قيامه، ممّا منحه مشروعيّة لتدوينه.
تغيّرت هويّة المرأة، بتغيّر علاقاتها مع العالم، وذلك بسبب التعليم، والعمل، والاستعمار، وحركات التحرر، والأيديولوجيّات... وبناء على ذلك تغيّر وعيها. إنّ هذا التغيّر في العلاقات جعلها مشاركة في تاريخ المدينة، لا منفعلة به فحسب، مثلما جعلها الوعي الجديد، تنفصل عن السلطة التي تماهت معها طويلاً، فلم تعد ترى ذاتها بعين تلك السلطة، وخرجت على النموذج الثقافيّ، لتكتب برؤيتها التاريخ السياسيّ، والديموغرافيّ، والاجتماعيّ، للمدينة.
هذا ما فعلته «صبحيّة» بطلة رواية «صنعائي» للروائيّة اليمنيّة نادية الكوكباني، والصادرة عام 2013 في مركز عبّادي للدراسات والنشر في صنعاء. لقد شهدت على تاريخ اليمن الحديث، وتاريخ صنعاء تحديداً، وقامت بتدوينه منذ حرب «المعمعان» 1962 ، بعد أن حفرت في طبقاته على مدار الرواية.
إنّ عمليّة البحث عن الجذور لا تتيسّر إلاّ لمن يمتلكون وعياً فرديّاً، يجعلهم مختلفين، وخارجين على سلطة النسق، لذلك يحاطون بالريبة، وقد لا تقبل شهادتهم، لكنّ «صبحيّة» تؤمن بوعيها، فهي امرأة شكّلتها تجارب ومغامرات متعدّدة، أوّلها تجربة نفي العائلة، أو هجرتها لأسباب سياسيّة، ممّا أفضى إلى أسئلة إشكاليّة تتعلّق بالسلطة، والانتماء، والهويّة، وثانيها تجربة الغربة، والعيش في مكان آخر هو القاهرة، وثالثها تجربة دراسة الفنّ تحديداً، فهي فنّانة تشكيليّة، تمتلك مرسماً في صنعاء القديمة وتزاول فيه عملها، ورابعها تجربة الهجنة الأنثروبولوجيّة، فجدّتها حبشيّة، وخامسها تجربة المغايرة الثقافيّة، فهي لا تضع اللثام أو النقاب. إنّ ذلك كلّه جعل «صبحيّة» تتقبّل الآخر، وتخرج على النموذج، وتمتنع عن التسليم بشيء، بل تنتقد المسلّمات وتحفر فيها، لذلك فهي تكتب عن صنعاء أخرى، مغايرة للنموذج النمطيّ الذي يقدّم هذا المكان على أنّه مرتع للرجعيّة، والشقاق بين تيّارات التأصيل والتحديث، ليصير أحد بؤر الإرهاب في المرحلة الأخيرة. إنّها صنعاء أخرى يرسمها ضمير الملكيّة الذي يميز العنوان «صنعائي»، الذي يؤكّد على شهادة متفرّدة، تشهد بها المرأة على المدينة، بوصفها شخصيّة روائيّة، من جهة، وساردة من جهة أخرى، وروائيّة من جهة ثالثة.
تكشف «صبحيّة»، بمثل هذه الرؤية النقديّة، عن وجه من وجوه خروج النساء على السلطة الثقافيّة الدينيّة، وممارسة معتقداتهنّ الخاصّة التي تنتصر للهامش في مواجهة المتن: «ذكر الإمام الشوكانيّ في كتابه «الفضائل»، باب «الأمكنة والأزمنة»، أنّ فضل مدينة صنعاء في أربعين حديثاً نبويّاً ليس له إسناد! يكذّبن كلّ ذلك، وبين عمود «المنقورة» السادس وعمود «المسمورة» التاسع يتردّد صدى ابتهالاتهنّ في تلك البقعة العظيمة بعالم من الأحلام والأماني، يصل إلى كلّ شبر في المدينة، لكنّه يرتدّ إليهنّ خائباً...»ص157
يفضي الوعي المختلف، لاشكّ، إلى حبّ مختلف، إذ تعشق «صبحيّة» «حميد» لأنّه يمنيّ أصيل ونمطيّ، لكنّها تتوقّف عند حدود كينونتها، فلا تبوح بالأشياء كلّها، ولا تسلّم المفاتيح كلّها: « حميد عشقي، وليس كمثله عشق، لكنّه لم يهتمّ يوماً بأحلامي. لم تأخذه تفاصيلها الصغيرة. لم يدعني يوماً أكمل له جملة أو أشرح له فكرة، أو حتّى أسترسل له في حكاية قديمة علقت في ذاكرتي» ص161. إنّها تعي اختلافها، وهذا الوعي مؤلم، لكنّه ملزم، يجعلها تواجه بقوّة نموذج الجدّة المريح، والذي قد يكون مهيناً في مثل هذه اللحظة التاريخيّة من الوعي: «من أي لي حكمة أمّي لأعبر فوق هذا الجرح وأواصل حكايتي مع حميد!...أين أنت يا حكمة أمّي، ويا فطنة جدّتي «مسرّة»، ويا إصرار جدّتي حليمة» ص163.
تنتقد «صبحيّة»، وهي ابنة أحد المناضلين المنفيّين، والذي يموت في منفاه، ويعود ليدفن في صنعاء حسب وصيّته، علاقة النساء بالسلطة، وتماهي الضحيّة مع الجلاّد في إحدى صورها، وهي عشقهنّ للسيّد الرئيس: «أنا أعشق فخامته، وسأظلّ أحبّه حتّى آخر عمري» لم تعلّق إحداهنّ على كلامها، بل بدا أنّ جميعهنّ واقعات في غرام فخامته!...لم يبادرن بتعريف أنفسهنّ، باعتبار أنّهنّ مشهورات، وأنّني بالتأكيد أعرفهنّ! بينما أنا بالفعل لم أكن أعرف أيّ واحدة منهنّ!» ص171
تتابع «صبحيّة» مواجهتها للنسق المسيطر، بتمثّلاته كلّها، وتنتقد هنا وجهه الاجتماعيّ بالتساؤل عن مظهر النساء اليمنيّات ولباسهنّ، ذلك المظهر الذي تعدّه طارئاً على الدين والثقافة، وليس من تقاليد أهل اليمن: «من كنّ يضعن اللّثام على وجوههنّ يأكلن من تحته. سألت نفسي في تلك اللحظة: هل يجدن متعة الأكل بهذه الطريقة؟ يد ممسكة بالنقاب والأخرى تلتقط ما تيسّر من الأكل بالملعقة لتحشره في فمها من تحته!» ص171
يحضر نموذج مقابل للمرأة، إنّه نموذج مختلف، يبدو أحياناً مضادّاً أو معاكساً، تمثّله «حوريّة» المرأة الأخرى التي عشقت «حميد»: «صرت امرأة منهوبة، نهبتني المسؤوليّة من ذاتي، ومن شعوري بحقوقي أو المطالبة بأبسطها. نهبني كلّ من حولي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولم يسأل أحد عمّا أريد أو كيف أريد الحياة. وحدها صنعاء كانت تمنحني الحياة.» ص249
تربط علاقة غريبة بين كلّ من «صبحيّة» و«حوريّة»! أحبّت المرأتان الرجل ذاته، الذي أحبّهما، لكنّهما لم يتحوّلا إلى عدوّتين، أو ضرّتين، لقد تواطأتا لإسعاد نفسيهما، كلّ حسب طريقتها، وتواطأتا في الوقت ذاته على رواية تاريخ المدينة، إذ تروي «صبحيّة» حكايات إنسها، في حين تروي «حوريّة» حكايات جنّها.
تفصح حكايات المرأتين عن جماليّات العمارة في صنعاء، التي يمنحها البشر بعداً عاطفيّاً، وقيميّاً، ويشكّل ذلك كلّه مورفولوجيا النصّ، إذ تصف صبحيّة صنعاء بقولها: «صنعاء...فهي التي تستعيد أجزاءها بعد أيّ خراب يصيبها عبر ألفي عام، وتعيد قمريّاتها المدوّرة صفاء ضوء القمر، ويغزل بهاء معمارها المزيّن بالجبس دلال العذارى ولوعة المحبّين. لأزقّتها رحابة قلوب ساكنيها، ولدفء سورها حرارة احتضان الأحبّة.». ص57
في حين تصفها «حوريّة»: «سكنني «حميد» منذ اكتشافي مراقبته لي وأنا أقوم بغسل ملابس إخوتي في «الكظامة» بعد أذان الفجر. وفيها يغتسل الرجال قبل ذهابهم إلى المساجد، ومن ثمّ تتوجّه النساء قبل شروق الشمس لغسل ملابسهنّ في «غيل آلاف» الذي كان يميز مدينة صنعاء بتدفّق جريانه من أعلى قرية «حدة» ص252.
تنتصر حكايات النساء، في شهادتهنّ على المدينة، للقيم الجماليّة المتعلّقة بالجميل، والبطوليّ، والمعذّب، لتقدّم بذلك نقداً جليّاً للنفعيّ الذي ظهر بوجوه متعدّدة منها الدينيّ، والثوريّ، والعسكريّ، والثقافيّ: «أخرجت من حقيبة يدها صورة قديمة بالأبيض والأسود لثلاثة جنود في ريعان شبابهم، بالبدلات العسكريّة المرقّطة، لقوّات الصاعقة والمظلاّت...وقالت: هذا والدي...من على يمينه قتل في حرب حصار السبعين يوماً، على أيدي الملكيّين. والذي على يساره قتل على أيدي الجمهوريّين أنفسهم.». ص188.
تتبدّى صنعاء، إذن، بهذين التاريخين المختلفين: تاريخ دمويّ تصنعه الرؤية الذكوريّة، وتاريخ مضادّ ترويه النساء، وعلى الرغم من أنّهنّ لا يقصين من حكاياته فصول الدمّ، والغبن، والخيبات، فإنّه يبدو أكثر ألفة، وحيويّة، وصدقاً.