Saturday 14/06/2014 Issue 442 السبت 16 ,شعبان 1435 العدد
14/06/2014

الأدب الحجازي الحديث بين التقليد والتجديد

عمل موسوعي ضخم اضطلع به باحث واحد، وحين أتأمل عنوانه الذي بين يدي «الأدب الحجازي» أتساءل لماذا بنى الباحث عنوانه على النعت، وليس على الربط بحرف الجر، لماذا صار الكتاب «الأدب الحجازي»، ولم يكن الأدب في الحجاز، هل هناك سمة خاصة لهذا الأدب، فأصبح حجازيا مغايرا عن غيره من أنواع الآداب. هذا الترابط عبر الصفة والموصوف يوحي إلي أنا -على الأقل- أن موضوع الدرس هو الأدب الحجازي بمفهومه الذي يعني السلوك بالإضافة إلى النصوص التي تحويها، وهو ما يتجاوز المفهوم الضيق الذي يحصره بأجناس أدبية خاصة تدور حول الشعر أو القصة بفنونها، أو المسرحية. وهذا المعنى هو الذي أجده في حديثه عن سبب الاتجاه إلى هذا الموضوع، والكتابة فيه، فليس قضية علمية ألحت عليه وحسب ولكن وراء ذلك، حب شديد لتراب عليه نشأ، ولأرض فيها درج، وفخر، واعتزاز. وهي كلها معان تتصل بالأدب بمفهومه السلوكي أكثر من ارتباطها بالأدب اللغوي: «وإذا كان كل إنسان يعتز بوطنه الذي ولد في مهده، ودرج على أرضه، وشب تحت سمائه، فإني لا أنكر هذا الدافع الذي لا ينكره علي أحد.. ذلك أنني من أبناء شبه الجزيرة العربية، تلك الأرض التي أعتز بانتسابي إليها، وأعيش في صميم حياتها الأدبية المعاصرة، وأقف على كل مظاهر نشاطها الأدبي، وأعرف كل ما يمثل هذا النشاط ويسجله من أدباء وشعراء، وكتب، وصحف، وأندية، ونحو ذلك، مما قد لا يتاح لغيري من أبناء البلاد العربية الأخرى».

هذه الصلة بالمكان التي تتجاوز البحث العلمي بما يمثل عادة حدود الظاهرة العلمية موضوع الدرس، لأجل أن يكون نوعا من التداخل الخاص بالمكان، حتى إنه ليشعر أنه جزء منه، يعبر عنه كما أن الباحث سيعبر عن نفسه بعد ذلك. ومن هنا أصبح الأدب بهذه الصورة لا يعني القول الأدبي، لكن يعني السلوك، الذي تمارسه فئة من الناس في هذه البقعة من العالم بما فيها الباحث نفسه. هذا السوك يتصل بالتعبير عن الأحاسيس، والآراء على اختلاف أنواعها، والاجتماع ومناقشة قضايا الفكر والأدب، وإصدار المجلات، والصحف، وطباعة الكتب، وإقامة الندوات، مما يصب جميعا في سلوك الفئات المتحضرة من الناس. وهو فعلا الأدب الذي تأدب به الحجازيون منذ الزمن الأول وإلى يومنا الحاضر.

وقد جاء الكتاب حاويا لهذا المعنى في فصوله وأبوابه، وتكويناته، ساعيا لأن يقف عليه، ولذا لا نعجب إذا وجدناه يتقصاه منذ فجر التاريخ حين يقف على الأدب الحجازي قبل الإسلام ثم يقص أثره في القرن العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر إلى بداية القرن الرابع عشر حيث موضوع الكتاب الأصلي. وحين يسلمه البحث إلى أوائل القرن الرابع عشر نجده يربط هذا القرن بالقرن الثالث عشر باعتباره امتدادا له، واستجابة لما جاء فيه من أحداث، ولذا رأيناه يعد دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب، وما فيها من إثارة للجدل العلمي والاجتماعي في الحجاز من قبل أن تظهر حركة سياسية نوعا من الباعث على الأدب، والمنشط للثقافة:

«وهكذا أحدث صوت ابن عبدالوهاب في الحجاز صدى، قصد منه الإثارة، والإنكار والتوجيه على مستوى العلماء وقبل عودته إلى نجد، في المرحلة الأولى في التأثير الخاص على قادة الحجاز من العلماء، حيث قام بالحجاز له ما بين مناصر ومعارض، وكان لذلك أثره في الفكر الحجازي، في بداية العصر الحديث الذي شكل الاتجاه الديني فيه دور القيادة. وكانت بداية الوعي الفكري» (إقليم الحجاز، ص204) ومثل دعوة الإمام تظهر سيطرة محمد علي والي مصر على الحجاز في المدة نفسها، إذ مثلت نوعا من التواصل غير المباشر مع الحضارة الغربية التي جاءت طلائعها إلى مصر في حملة نابليون، فكأن مصر في ذلك الزمن كانت الحلقة التي ربطت الحجاز بالحضارة المدنية الغربية، برغم تأكيده أن هذا الاتصال محدود بقصر مدة سيطرة محمد علي على الحجاز أولا، ولأن معظم ما استفادته مصر من الحضارة الأوروبية قائم على المعارف العلمية، وهو ما يحتاج وقتا لأن ينتقل. إلا أن هذا لا يمنع من أن تكون هذه المدة القصيرة ملهمة للساكنين، ودافعة لهم للبحث والنظر، ومثيرة بعض القضايا للحوار والجدل، وهذا ما عناه حين عدها من البواعث على الأدب. كما نجد هذا المعنى أيضا في مساواة الباحث بين الأدب القولي، والأدب الفعلي/ أدب السلوك في إعداد المباحث، فنجده يجعل روافد الأدب الحجازي «المعارضات»، وهي فن أدبي قديم، يقوم فيه الشاعر بمعارضة قصيدة سابقة عليه أعجبته، كما يجعل الأندية الأدبية التي يلتقي فيها الأدباء والمتعلمون من الناس ليتداولوا الرأي في شئون الأدب والفكر، والحرمين الشريفين. وقد يقول قائل إن المقصود بالمعارضة هنا هو فعل المعارضة، بمعنى ميولهم إلى المعارضة، وقول الشعر. والتركيز على الجانب السلوكي الخلقي في هذا الفن يؤكد ما سبق قوله حول مفهوم الأدب هنا.

وهو ما يؤكده إلحاح الباحث على كلمة «ثورة»، فنجده يصف كل حراك أدبي يتصل بالجديد باسم الثورة، وذلك في الباب الثالث: « الثورة التجديدية في الأدب الحجازي»، «ثورة الأدب التجديدي»، «شعراء الثورة التجديدية»، والباحث لا يقصد بـ»الثورة» المفهوم الذي يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، لسبب بسيط وهي أن هذه لا تكون في الأدب، فالأدب يبني على ما سبق، حتى ولو أعلن القطيعة معه، فهو لم ينقطع إلا بعد أن عرف حدوده وبنى تجربته الجديدة. الأدب يعتمد على العقل، والقيم، وهما مرتبطان ببيئة المنشأ. فالتغير في الأدب يكون تدريجيا، تصاعديا، وتجربة الأدب الحديث أكبر دليل على ذلك، فالتحول الذي أصاب أساليب القول، والكتابة في اللغة العربية في العصر الحديث منذ صفوت الساعاتي أخذ وقتا طويلا تطور بعده على يد البارودي، ثم شوقي وحافظ، ثم خليل مطران وشكري، وجبران، وغيرهم ممن أكمل مسيرة التطور في الشعر الحديث. وهي مسيرة استغرقت أجيالا من الأدباء والمبدعين قبل أن تستوي على سوقها، ولكن الباحث يستخدم هذه الكلمة صدى لما تمور به نفسه التواقة للجديد التي تجتاز المراحل التي مر بها الأدب في عصوره المختلفة، فتتصور أنها ثورة قلبت موازينه التي كان عليها في عصوره الأولى. وقد بلغ من محبة الباحث بالجديد، أن قسم الأدب إلى ثلاث مراحل: 1- الأدب التقليدي. 2- التقليد التجديدي. 3- الثورة التجديدية. وهي قسمة تخالف ما تعارف عليه الباحثون من جعل الأدب إما تقليد أو تجديد، ولكنه عز عليه أن يكون في الأدب شيء من مظاهر الجدة ثم لا يضع لها قسما خاصا بها. وقد أدخل في هذا القسم الشعر الذي شهد مرحلة التحول من العهد العثماني إلى الشعر الحديث، وتزامن في تجديده مع مرحلة البارودي وشوقي، فلم يتأثر بحركة الشعر الرومانسي كما عند القرشي والعواد، وحسين سرحان. وبيان الأسماء التي تحدث عنها في هذا القسم يبين مفهومه لديه أكبر تبيين: ومن أبرزهم أحمد الغزاوي، وفؤاد شاكر، وعبد الله بلخير.

على أن مفهوم «التقليد» لدى الفوزان، واضح محدد، فهو لا يدع مجالا للتفسير والتحليل، «فالمقلد هو الذي لا يملك الإبداع الشخصي، بل هو من يعيد صورة ماضية مكررة، فيعد إنتاجه نقلا على اللغة إن قلد فترة ضعف، لأنه يقوم بنقل مرض كان يجب القضاء عليه. أما إن قلد ما قيل في فترة قوة، فيعيد بذلك صورة ماضية بواقع موجود في تراث الأمم». فالتقليد لديه، هو الأخذ بالطرائق القديمة السابقة، سواء كان هذا المنتج المقلد جيدا، أو رديئا، فهو لا يعدو أن يكون تقليدا، والتقليد لديه درجة ثانية بعد الإبداع الأصيل الذي ينتجه الأدباء المبدعون، ومهما حسن التقليد أو المنتج المقلد فهو يظل تقليدا وما حسنه إلا لحسن النموذج الذي قلده. ومن هذا المنطلق، بدا ولعه بالتجديد، وتمسكه به، وإشهار نماذجه، والوقوف على عناصره مهما قلت ملامحه.

وفي مقابل ذلك يأتي «التجديد»، إلا أنه على خلاف ما سبق لا يحدده بمفهوم معين، بقدر ما يربطه بحركات أدبية جاءت تبعا، وحملت لواء التجديد، كل واحد أخذ منها بقدره. ومن هنا فقد اختلف مفهومه من مدرسة إلى أخرى، حتى جاء عند بعضهم بوصفه بعثا للأدب القديم في عصور ازدهاره، وهو ما عده من قبل ضربا من التقليد. وهو ما يعني أن «التجديد» مختلف عن التقليد باعتباره أمرا نسبيا يختلف فيه الحكم باختلاف الزمان والمكان. وقد تتبع المجددين، وأقوالهم، فوجدهم يزاوجون بين التقليد والتجديد، ولا يلتزمون طريقا واحدا، مما جعله يصل إلى نتيجة أن المبدع لا يكون مجددا فقط أو مقلدا فقط وإنما قد يجمع بينهما، فيأتي بالجديد كما يأتي بالقديم، وليس ذلك باختلاف المراحل التي تعني نضج الكاتب وإنما قد تعني أن اتساع وجهة نظر الكاتب لاحتوائه القديم بعد أن كان يرفضه من مثل العقاد وشوقي. وكأنه بهذا يحكم على العمل نفسه أكان من قبيل التجديد أم من قبيل التقليد، وهو ما يتفق مع نظرته إلى التجديد السابقة الذكر. يقول في ذلك:

«وقد يظن القارئ أن التقليد والتجديد جاءا على شكل مراحل لدى هؤلاء وذلك تمشيا مع الثقافة، وهذا لا يعني الجمع بين النقيضين أو المزاوجة بينهما ولكن أطمئن القارئ بأن منهج المزاوجة قد اختاروه لأنفسهم مع إدراكهم لدعوات التجديد التي تهاجم التقليد» مما يعني أنه اختيار واع من قبل هؤلاء المبدعين لإدراكهم أن الفن والإبداع منبعه واحد مهما اختلفت مدرسته ما دام يعبر عن نفس الكاتب ورؤيته. وبالرغم من أن الأستاذ الدكتورجعل كتابه للحديث عن التقليد والتجديد في الأدب الحجازي، إلا أنه جعله ديوان التجديد في الأدب العربي الحديث، وليس الحجازي وحده، فجاءت قضية التجديد في الأدب هي القضية التي يمكن أن تكون قد شغلت الكاتب والكتاب معا، فلا نعجب إذا وجدنا الباحث يستعمل مصطلحات مثل: «البعث»، «الإحيا»، «التطور» في صلب حديثه عن التقليد، والمقلدين، فالمدرسة الأولى من المقلدين التي بزعامة إبراهيم الأسكوبي نشأت بأثر من مدرسة البعث والإحياء، والباعث على هذا التقليد هو حركة تطور كالتي قادها عبد المحسن الصحاف، في إثر ثورة الشريف حسين، والحركة الإصلاحية التي قادها الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب، بالرغم أن حافز التقليد ليس من خارجه، وإنما باعثه من داخله، وهو المحاكاة الصرف، والتقليد للآخرين.

بل أبعد من ذلك حين يستطرد في الحديث عن بواعث التجديد في الأدب الحجازي إلى الحديث عن حركات التجديد في مصر، والشام، والمهجر، وينقل النصوص الطويلة لخليل مطران، وجبران خليل جبران، وميخائل نعيمة، والعقاد، وطه حسين، ليمتع القارئ بهذه النصوص التي ترى التجديد في الأدب غاية الأدب، وترى التطور طبيعة الحياة من مثل ما كتبه خليل مطران: «هذا شعر ليس ناظمه بعبده ولا تحمله ضروبات الوزن والقافية على غير قصده، يقال فيه المعنى الصحيح باللفظ الفصيح،ولا ينظر قائله إلى جمال البيت المفرد، ولو أنكر جاره وشاتم أخاه ودابر المطلع، وقاطع المقطع، وخالف الختام. بل ينظر إلى جمال البيت في ذاته وموضوعه وإلى جمال القصيدة في تركيبها وترتيبها وفي تناسق معانيها وتوافقها مع ندور التصور وغرابة الموضوع ومطابقة كل ذلك للحقيقة، وشغوفه عن الشعور الحر وتحري دقة الوصف واستيفائه فيه على قدر». وهي نصوص لم يكتف الدكتور الفوزان بالإشارة إليها، أوتلخيصها بل أتى بها نصا ليثبتها كوقائع حدثية لفعل التجديد، وحركته التي يسعى لأن يستبطنها قبل أن يؤرخ لها بكل مستوياتها وأنماطها، ابتداء مما يسميه بالبواعث، ثم الروافد متبوعا بالمظاهرثم الخصائص، والنماذج، والأعلام. وهو حديث يختلط فيه الحديث عن الأدب، بالحديث عن الفكر، والسياسة والتاريخ ليقول: إن حركة التجديد في الأدب لا يمكن أن تنفصل عن حركته في الفكر، والمجتمع، ولا يمكن لمؤرخ الأدب أن يقف على أثر الأدب والمؤثرات فيه ما لم يقرأ المرحلة كاملة، وهو ما جعل «الأدب الحجازي» كما يسميه الأستاذ الدكتور في قلب الحدث الاجتماعي والفكري والأدبي على المستوى المحلي أو على المستوى العربي.

إن كتاب الأدب الحجازي بين التقليد والتجديد لهو سفر عظيم من أسفار الأدب الحديث لا غنى لدارس الأدب عنه، لما فيه من معلومات دقيقة عن التاريخ الحديث الفكري والسياسي، والأدبي، ولما فيه من نصوص وشواهد عاد فيها مؤلفه إلى مصادر قد لا تتوافر لغيره إلا بشق الأنفس، ولما فيه من رؤية تحليلية عميقة جمعت هذه المعارف والنصوص في بوتقة واحدة وقربتها للدارسين من بعده.

- الرياض Alshatwy@gmail.com