بدأت معرفتي بالدكتور الفوزان منذ قرابة 25 عامًا، حين حصلتُ في السنة الأخيرة من الدراسة الجامعية في كلية اللغة العربية بالقصيم على نسخة من كتابه: الشعر الحجازي الحديث بين التقليد والتجديد، بوصفه مرجعًا لمقرر الأدب السعودي الذي كان يتولى تدريسه لنا الدكتور حسن الهويمل، ولا زلت أحتفظ بالنسخة نفسها في مكتبتي حتى الآن. ثم ناقشني في الماجستير بوصفه عضوًا داخليًا، في رسالتي عن الشاعر المؤرخ المدني عُبيد مدني، التي أشرف عليها الدكتور مسعد العطوي، فحين جاء دوره كانت مناقشته علمية وموضوعية وهادئة، وقد استعدّ لها، وأنصفني وأنصف الرسالة، بعد أن أصدر عضو المناقشة الخارجي أحكامًا جائرة على البحث وعلى الباحث، لأسباب خارجية ليس للباحث دور فيها، فكان هذا هو الدرس الأول في المنهج، وهو الاستقلال في الرأي العلمي، وعدم التأثر بالآخرين، والفصل بين الشخصي والعلمي في البحث.
وبعد الحصول على الماجستير، فمن المعتاد بعد أن يُنهي طالب الدراسات العليا مرحلة الماجستير أن يشرع في الإعداد لمرحلة الدكتوراه، وقبل ذلك عليه أن يتقدّم بمشروعٍ مبدئيٍ للرسالة إلى القسم المختص، ورأيتُ أنه من الأفضل قبل كتابة خطة مشروع البحث وتقديمه أن أستشير أساتذة القسم المتخصصين في الموضوع المقدّم، وكان ممن استشرتهم في البدء د. إبراهيم الفوزان -حفظه الله- إذ جئتُه أحمل موضوعاً كنتُ أظن حينها ـ بحسب اطلاعي ـ أنه جديرٌ بالدراسة والبحث في مرحلة الدكتوراه التي تبلغ أربع سنوات نظامية، فأفادني ـ جزاه الله خيراً ـ أنه لن يقف ضد تسجيل الموضوع في القسم، لكنه يرى ـ بحسب خبرته ونظره ـ أن رسالة الدكتوراه ينبغي أن تحمل إضافةً علميةً متميّزةً، يفتخر الباحث بها بعد إنجازها، وتسدّ ثغرةً وفجوةً في التخصص تتناسب مع قدرات الطالب في هذه المرحلة، ومع الوقت الممنوح لإنجاز الرسالة، وهذا الموضوع ـ خاصة ـ أقلّ من طموحه في طالب مرحلة الدكتوراه، فانصرفتُ من عنده شاكراً له وممتنّاً له نصيحته، فكان ذلك سبيلاً إلى الإقدام على تسجيل رسالة الدكتوراه عن (الشعر في منطقة القصيم من عام 1351 هـ ـ 1420 هـ)، وهو من المشاريع والأفكار البحثية التي كنت أفكّر فيها منذ أمد، وحين استشرت د. إبراهيم حوله، أعطاني الموافقة المبدئية، وشجعني على تسجيله، ثم جاءت الموافقة الفورية والتشجيع من رئيس القسم وأعضائه، ومن د. إبراهيم بصفة خاصة، الذي رعاه، وكان هو المرشد العلمي في أثناء مرحلة التسجيل، ثم شرّفني بقبول الإشراف عليه .
رافقت الدكتور الفوزان قرابة خمس سنوات، في أثناء العمل في رسالة الدكتوراه عن ( حركة الشعر في القصيم )، والتقيت به لقاء مباشرا في أكثر من 40 جلسة في بيته في الرياض وفي الجامعة وفي القصيم، وكنت ألمس فيه حرصه على اللقاء المباشر، وربما تمتد الجلسة لأكثر من ثلاث ساعات، دون كلل أو ملل، بل إنني قد أبادر في الاستئذان تقديرًا لظروفه العائلية، وفور خروجي من الجلسة، أبادر بكتابة أهم الفوائد العلمية والتربوية والمنهجية والأدبية التي استوعبتها منه، ولازلت محتفظا بها، ورأيتُ في هذه المناسبة فرصة لعرض بعض منها في هذه المشاركة.
وكان يرغب في التواصل المباشر مع طلابه، والحديث إليهم حديثًا مباشرًا، وقراءة ما نجز من الرسالة عليه، والتحاور حول ما تحمله، على الرغم من إمكانية إرسال ما ينجز الطالب من الرسالة إليه بريدياً.
وقد أفدت من جلساتي معه ولقاءاتي المباشرة معه، ورأيت أهمية ذلك عندما بدأت بالإشراف على طلبتي في الدراسات العليا، فأرى أنه مهما تطورت وسائل التواصل بين الطالب والمشرف عبر الهواتف والإيميلات أو الفاكسات، أو غيرها، فإن جلوس الطالب بين يدي أستاذه، وتبادل الحديث بينهما، تخلق نوعاً من العلاقة الإنسانية والنفسية بين الطالب وأستاذه، فيتعلم منه صفات قد لا يتلقاها الطالب في القاعة، أو عبر أوراق البحث، فيرى كيف يتعامل الأستاذ مع أهل بيته ومع أبنائه، وكيف يستقبل زواره، وكيف يودعهم، وكيف يتحدث مع مهاتفيه، وكيف، وكيف .. فالعلاقة بين الأستاذ وتلميذه في الدراسات العليا هي علاقة علمية وأدبية وتربوية، فإذا نشأت العلاقة هذه العلاقة الروحية بين الأستاذ وتلميذه، واقتنع كل منهما بالآخر، ظهر أثرها على جودة عمله، وقد رأيت غياب هذه العلاقة في طلاب الدراسات العليا الذين حصلوا على درجاتهم بـ (التعلم عن بعد) .
وحين يتحدث الدكتور الفوزان فهو يستند إلى رصيد ضخم من الخبرة العلمية والعملية والإدارية، عبر مسيرة خمسين عاماً تقريباً، قضاها في التدريس في المعاهد العلمية، وفي كلية اللغة العربية بجامعة الإمام، ثم واصل دراساته العليا (في الماجستير والدكتوراه) وهو على رأس العمل، وشغل منصب وكيل كلية العلوم الاجتماعية، وكان أول عميد للقبول والتسجيل بجامعة الإمام، وشارك في مناقشة وتحكيم عدد كبير من الرسائل والأبحاث، وكتب جملة من المؤلفات المطبوعة.
فإذا تحدث، أو نصح، أو وجّه اختصر على المستمع سنوات بل عقودًا من الجهد والتفكير والبحث، سأذكر هنا بعضًا مما استفدته منه، فهو يتحدث من واقع رصيد ثري من الخبرة في الحياة العامة والجامعية والإدارية والاجتماعية:
1- لحظ الدكتور الفوزان مني تأخراً في التواصل معه والاتصال عليه في بداية تسجيل الموضوع تقديرًا مني ـ آنذاك ـ للعارض الصحي الذي اعتراه، وظنًا مني أنه سيعتذر عن التزاماته في الكلية، على الرغم من حاجتي إليه للإجابة على عدد من التساؤلات التي تطرأ على الباحث في بدايات عمله، ولكنني حين اتصلت به عاتبني على التأخر في التواصل معه، وحين أخبرته بالسبب، أعطاني الدرس الأول: في أهمية وضرورة النظر إلى الأمام بتفاؤل وإيجابية، وترك الماضي وعثراته، والإيمان بما قدّره الله على الإنسان. ووعدته بأنني من الغد سأزوره في بيته في الرياض.
2- التربية والتعليم بـ (الحب والتشجيع): يؤكد دائمًا الدكتور إبراهيم الفوزان على مبدأ التشجيع والتحفيز للعاملين والطلاب والأبناء، والتغاضي عن الهفوات الإنسانية الطبيعية، ويرى في ذلك طريقا للنجاح والإبداع، وقد لمست منه ذلك في فترة الإشراف، مما ساعدني على تحمّل مشقات الجمع بين العمل العلمي والإداري والأسري، فإذا تأخرت في إنجاز عمل ما، وأخذ مني الخجل مأخذا كبيرا وجدت منه الإعذار والتقدير، فهو مشرف (يفتح) النفس للعمل، بتشجيعه وتحفيزه، وشحن الهمم، يتغاضى عن السلبيات ويشيد بالحسنات، والإيجابيات، ومبدأه: الإكثار من التشجيع، والتقليل من النقد والتجريح.
3- يرى الدكتور الفوزان أن على المعلم والمربي ممارسة أسلوب (التفويت) مع الطلاب ومع الأبناء، والتغافل عن بعض تصرفاتهم، والتغافل لا يعني الغفلة، فالمعلم والأب ـ وهما الأكبر سناً ـ أدرى بالحياة وشؤونها من الابن والطالب، ومن المؤكد أنهما مرّا بهذه الفترة من العمر، التي يمرّ بها الطالب أو الابن، وأدركا تقلباتها، واضطراباتها، ولكون الابن أو التلميذ يعبر حاليًا هذه الفترة، فلا بد من مراعاة ذلك، والحلم معهم، وكثيرًا ما ردّد الدكتور الفوزان على مسامعي ومسامع زملائي أنه طيلة عمله معلمًا ومحاضرًا: (لم يُخرج أو يطرد طالبًا من القاعة)، مهما بالغ في الإساءة، فإخراج الطالب، أو طرد الابن من البيت ليس حلاً، بل قد يكون إعلانًا عن الإفلاس والعجز عن تحمّل المسيء، وحين يكون المربي كذلك فهو ليس أهلاً للتربية.
4- يرى الدكتور الفوزان أن المعلم والمربي والداعية والموظف سيقابل في أثناء أداء مهمته أصنافًا متباينة من البشر، منهم المحترم الذي يعرف ما له وما عليه، ويحترم الآخرين، ومنهم غير المحترم، والطلاب ـ كسائر البشر ـ نوعان: طالب محترم ويحترم أستاذه، فعلى المعلم احترامه. وطالب غير محترم ولا يحترم أستاذه وزملاءه، فاحترم نفسك عن النزول إلى مستواه. فقد يخطئ الآخرون ـ كما يقول أحد الحكماء ـ في التفريق: أيكم غير المحترم؟..
5- يتفاوت مستوى الطلاب في أي قاعة دراسية كما يرى الدكتور الفوزان إلى: طلاب متميزين، وطلاب متوسطين، وطلاب دون المتوسط، وكثيرًا ما يهتم الأستاذ بالمتفوقين الذين لا تتجاوز نسبة عددهم عن 20%، وهؤلاء لا يحتاجون لكبير اهتمام ورعاية بما حباهم الله من ذكاء وموهبة، وفي الوقت نفسه يقلّ اهتمامه بالطلاب (طلاب الوسط) الذين يمثّلون 80% من طلاب القاعة، وهم المحتاجون إلى التأكد من فهمهم واستيعابهم، والنزول إلى مستواهم، للتمكن من رفع حصيلتهم ومستواهم، حتى لا يتخرّج معظم الطلاب قبل حصولهم على المهارات والمعارف والمعلومات الضرورية، وقد أرشدنا الهدي النبوي إلى أن الضعيف أمير الركب.
6- التأكيد على خطورة (الكلمة) ومراميها قبل كتابتها، وبعد كتابتها، فرُبّ كلمة قالت لصاحبها (دعني)، فقد كان الدكتور إبراهيم حريصًا على دقّة الكلمات ودلالاتها، وربما اقترح حذف أو تعديل كلمة في الرسالة حتى لا توحي بمعنى آخر، وربما طالبني بحذف بيت أو شطر غير مناسب أو غير لائق لشاعر ما، حتى وإن كان موجودًا في ديوانه، فهو يرى ألا نساعد على نشر الكلمة أو الكلمات غير المناسبة، وإن كانت صدرت عن شخص ما، شاعر أو مؤلف، حتى لا يساعد الباحث ـ كما يرى ـ في انتشارها وذيوعها، وهي كلمة أو عبارة ربما يكون الشاعر كتبها في لحظة انفعال، فالشاعر كسائر البشر يمر بلحظات انفعال، وتصدر عنه ومنه كلمات أو مواقف غير محسوبة، فهناك شعراء انفعاليون يكتبون في لحظات الانفعال ويفقدون السيطرة على كلماتهم، فيمضي بهم وبنا الزمن، وتصبح هذه الكلمات الانفعالية مسجّلة في صحائفهم، ومعلوم أن كل شاعر لديه أضعاف أضعاف ما نشره محتفظاً به في أوراقه الخاصة، لعدم مناسبته للنشر، ومنهم من يعترف بأنه أتلف أضعاف ما نشره وتخلص منه بطريقته الخاصة، لأنه عبّر به عن انفعال معيّن، وانتهى مع نهاية ذلك الموقف.
7- التأني والتحرّي في العقاب، وفي الأحكام، وفي النتائج، فيرى الدكتور إبراهيم أن على الباحث ألا يفرح ويطير بالعثور على زلّة أو هفوة من أحد، ويأخذ في تكرارها والتذكير بها.. فلكل إنسان زلات وعثرات يرغب أن تكون من الماضي، فعلى الباحث ألا يكون مساعدًا في نشر ذكريات الماضي الأليمة والمزعجة لدى الآخرين، وإن كانت تحت مظلة المنهجية.
8- يرى الدكتور الفوزان بأن الناجح الواثق لا يحقّر أحدًا مهما ضعف عمله وإنتاجه، حتى وإن تواضع هو بنفسه، وتنازل عن استحقاقاته، وصرّح ـ تواضعاً ـ بضعف إنجازاته، فالقوي الناجح الواثق هو من يحاول رفع الآخرين معه إلى القمة، وليس هو من يركلهم إلى الهاوية، فالقمة تتسع له ولغيره، ولأن الأقل مستوى وإنتاجاً ربما يكون الآخرون أو محيطه العام أو ظروفه هم السبب، فذلك مثل من يلوم المريض على مرضه، في الوقت الذي لم تقم الجهات المعنيّة بواجبها الكامل في توفير البيئة الصحية.
9- يرى الدكتور الفوزان أن على المشتغلين في المجال الإنساني، ومنهم الأدباء والنقاد ودارسو الأدب عدم الاندفاع والقطع والجزم بما توصلوا إليه من نتائج، لأن النتائج في المجال الإنساني نتائج احتمالية، وظنيّة، وينصح بالإمساك بـ (العصا من المنتصف) كما يقول دائماً، فالأدب خاصة والعلوم الإنسانية ليس فيه رأي حاسم، أو كلمة أخيرة، لذا على الباحث عدم الاندفاع الشديد (مع) أو (ضد) النتيجة التي يتوصل إليها، وأن يترك مسارات الرجعة مفتوحة، وعدم إحراق السفن كما يقال.
10- القلق العلمي: يرى الدكتور الفوزان أهمية توافر هذه الصفة في الباحث، وذلك بتسجيل كل معلومة يقرأها، مما له علاقة ـ وإن كانت بعيدة ـ بالموضوع، وإن لم يكن محتاجًا لها في الحال، وكذلك اقتناء كل كتاب مهما ارتفعت قيمته المادية، فقد يحتاج الباحث إليه مستقبلاً، حتى لا يكون تحت رحمة أحد، فالمعلومة عند الحاجة إليها تصبح كالدواء الذي ندفع المبلغ الكبير في سبيل الحصول عليه، فقد استغل الدكتور الفوزان ـ كما ذكر لي ـ وجوده في القاهرة للدراسة في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، في زيارة المكتبات، واقتناء الكتب، والعناية بتجليدها، والاحتفاظ بها حتى الآن.
فالباحث هو مشروع قادم لـ (أستاذ جامعي)، والأستاذ الجامعي الناجح لن يستمر في نجاحه، إن لم يتعاهد نفسه ومعلوماته بالتغذية العلمية اللازمة لمحاضراته، وأبحاثه، ومناقشاته، فالعالم يظلّ عالمًا ما طلب العلم، فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل.
هذا بعض ما علق بالذاكرة من الفوائد والخطرات والخواطر مع الدكتور إبراهيم الفوزان، متعه الله بالصحة والعافية، ورزقه سعادة الدارين.
كما أشكر للمجلة الثقافية وربابنتها على إتاحة الفرصة للتعبير عن بعض مما يستحقه أعلامنا وأساتذتنا.