Saturday 13/12/2014 Issue 455 السبت 21 ,صفر 1436 العدد
13/12/2014

واقع الأندية الأدبية ومستقبلها(2-2)

لا بد - في ضوء ما وصفناه في مؤسساتنا الثقافية في الأسبوع الماضي - من أن نزهد في تصوراتنا القديمة تجاه دلالة الأدب والأديب، التي أصبحت مخنوقة بتعاليها ورومانسيتها وامتلائها الميتافيزيقي. ولا بد أن نعيد التفكير في حقيقة المحصول الذي يتوافر للثقافة من فهم العلاقة بالأدب بأي معنى توجيهي أو تعليمي. فالأدب –هكذا- يغدو ملوَّثاً بالمصالح والمنافع، يغدو ملوثاً بـ «أنا» متضخمة في تكسُّبها بالأدب أو شعورها المَرَضي بأنها قادرة على حُكم الواقع، وتعليمه، والتفكير نيابة عن الجماعة الثقافية. وهذا دور ظلت صفة الأدب الرسمية محتكِرة إيَّاه، ومتطابقة معه، حتى استنار الوعي الأدبي حديثاً في المرحلة التي تلت الرومانسية، فأصبح الأدب بالصفة السابقة تعتيماً على الواقع لا إنارة، وتخلفاً عن حركته لا ريادة له، وسبباً في مضاعفة الانقسام والتصادم من حيث يراد له وبه الاضطلاع بمهمة مضادة لذلك تماماً. لا بد من أن نزهد في دلالة الأدب والأديب بالمعنى القديم والذي مازال يكيِّف نظرتنا حتى اختَصَصْنا الأدباء دون غيرهم من المبدعين والفاعلين في إنتاج الثقافة بالنوادي الأدبية.

وحين نزهد في دلالة الأدب والأديب ووظيفتهما بالمعنى الموصوف أعلاه، فإننا لا نعني الزهد فيهما، أو استبدال التحقير لهما بما كانا يحظيان به من تعظيم. كلا، فالمقصود هو أن نحلهما المحل المستحق لهما في إنتاج الجمال الفني، بالمعنى الذي لا يميز وظيفة القصيدة عن وظيفة المنحوتة إلا في اختلاف مادتهما وجنسهما الفني. وهذا معناه استحداث دلالة للفعل الأدبي ووظيفة له في المنظور الذي يصله بغيره من الفنون وأشكال الفعل الثقافي، ولا يفصله عنها. ونتيجة ذلك لا تنحصر –فحسب- في إكساب الأدب والمنتسبين إليه موقعاً جديداً في سياق أوسع وأدعى إلى الحيوية والتلاقح وأحفل بالمواهب المتنوعة وأكثر تركيزاً وتقطيراً للخاصية الأدبية، بل تفيض عن ذلك وتتعداه إلى إنعاش الفنون التي انحسر الاهتمام بها وتضاءل تشجيعها والحفاوة بها، فتستحيل من الهامش إلى المتن.

وإذا كان من المقرر في تاريخ الآداب والفنون أن الأجناس الأدبية والفنية تتمايز في حضورها التاريخي وتختلف تبعاً لاختلاف الحقب أو السياقات التاريخية، والتطور الثقافي والاجتماعي؛ فإن من المعاكسة للتاريخ ألا يتاح للفنون من فرصة التطور وتكافؤ الحضور ما يحقق العدالة بينها. فليس معقولاً أن تظل بنية الواقع الثقافي وإدارته مصمَّمة منذ أربعين عاماً على هذا النحو فلا يساير الزمن ولا يتطور معه إلا زيادة عدد الأندية وفروع الجمعيات، أو نَقْل إدارة الثقافة والإشراف عليها من رعاية الشباب إلى وزارة الإعلام. لنقل بصريح العبارة إن من غير المجدي أن نصنع تطويراً ثقافياً ما لم نُعِد هيكلة الأجهزة المعنية بالفنون والآداب. فكيف نطوِّر الثقافة بحَصْر الاهتمام في الأندية الأدبية؟! كيف نطوِّر الأدب ونحن نقصي المسرح ونحارب السينما ونضيِّق الخناق على الموسيقى ونحتقر الفولكلور ونقبض أيدينا عن أي دعم أو مؤازرة للفنانين التشكيليين...؟! لماذا لا نتصور، أو لا نريد أن تكون الفنون والآداب أغصان شجرة واحدة؟!

لابد من أن تتسع الأندية الأدبية لأقسام ومناشط جمعية الثقافة والفنون أو تتسع الجمعية للأندية الأدبية، فتتوحد الجهتان أو تندمجا، ولا بد من إضافة المكتبة العامة إلى هذا الاندماج، وتتاح الفرصة لاندراج أقسام فنية وثقافية أخرى لم تحظ باهتمام الجمعيات والأندية من قبل. وليست هذه الفكرة جديدة فقد ناقشها ملتقى المثقفين السعوديين الثاني المنعقد في الرياض في المدة من 27 إلى 3-11-1432هـ تحت عنوان «المراكز الثقافية» وكانت محور إحدى جلساته. بل إن إحدى الأوراق التي تم طرحها في هذه الجلسة ذهبت إلى أن تاريخ الفكرة بدأ –في الأقل- عام 1415هـ على لسان الأمير فيصل بن فهد (رحمه الله) الرئيس العام لرعاية الشباب آنذاك في إحدى المناسبات الثقافية، حين كانت الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون تحت إدراتها. وكانت بعض الأوراق تبارك الفكرة وتبرهن على جدواها بالمقارنة بفكرة المراكز الثقافية في الدول الغربية مثل فرنسا وإيطاليا وأمريكا. ولم تحدث معارضة للفكرة بشكل جدي، وظلت التحفظات عليها، تأتي من زاوية التحبيذ لتعدد إدارات العمل الثقافي وأن الدمج سيضيِّق واسعاً. وكان الإحساس الذي لم يكد يبين في كلمات أن دعم الأندية الأدبية وامتيازات أعضائها ستتضاءل بسبب اندراجها في متعدد أو تفرُّق مبالغ الدعم التي كانت خاصة بها.

وعلى رغم ذلك فإن أقصى ما يمكن أن نصف به مصير الفكرة، ليس الإلغاء لأن أحداً من المسؤولين لم يقل ذلك صراحة، وإنما تأجيل الفكرة أي التغاضي عنها مؤقتاً وعما ينشأ عنها من عناء. لكن هذا المصير أكثر إرباكاً واستنفاداً للجهد والمال، فها هي بعض الأندية الأدبية تفرغ من بناء مقراتها، وها هي أخرى توشك أن تتسلم مقراتها، أو تشرع في إنشائها، وذلك بملايين الريالات، ولكن بتصاميم لا تأخذ في الحسبان أدواراً مستقبلية يمكن أن تتمثل فيها فكرة المراكز. ويضاف إلى ذلك جهد اللائحة المنظمة لعضوية الأندية الأدبية وإدارتها التي استنفدت جهداً كبيراً. إن فكرة إنشاء مركز ثقافي يشمل مناشط فنية وأدبية وثقافية عديدة، في كل منطقة هي طموح أبعد في تطوير الثقافة، والمعارضون لها حين يعتقدون أن تعدد الإدارات الثقافية أجدى على الثقافة، يتحاشون جناية التشتيت والفصل بين الفنون على المفهوم الذي يطبعها والوظيفة التي تضطلع بها، ولا يكترثون بقلة المتفاعلين من عموم الناس مع النشاطات الأدبية التي يُغْدَق عليها المال، ولا بما تلقاه جمعيات الثقافة والفنون من شُح وتقتير.

أما الأمر المهم في القضية كلها، فهو أن طرحها على هذا النحو قد لا يصدر عن وزارة الثقافة والإعلام. وهذا طبيعي فالتخطيط لقطاع من قطاعات العمل واكتشاف ما يؤدي إلى النهوض به لا يحدث في العادة من المنهمكين فيه والغارقين في لُجَّته، بل من جهة يتوافر لها مسافة رؤية إلى الأبعد. والجهة التي يمكن أن تتوافر لها مسافة الرؤية هذه هي مجلس الشورى، ولقد قدَّم مجلس الشورى في السابق توصية بإنشاء مجلس أعلى للثقافة والفنون والآداب، وليس بعيداً أن تتبنَّى لجنة الشؤون الثقافية (وفيها أسماء من خيرة المثقفين وأكثرهم وعياً بالثقافة وطموحاً إلى ما يرقى بها) مقتَرَحاً بشأن المراكز الثقافية، وأن تبادر إلى تقديم توصية به إلى المجلس.

- الرياض