Saturday 13/12/2014 Issue 455 السبت 21 ,صفر 1436 العدد
13/12/2014

الشاعر الرحّال الذي خطفته ألاعيب السياسة!

كان وجهاً حالماً، وهو شابٌ نحيل أبيض الوجه، جرئٌ في حركته، إذ يعبر الممر المواجه لمكتبي كفارس، وقد لمحت أنه بلا غطاء للرأس، يحمل بيده أوراقًا، وكأنه من أهل الدار، فلوح لي وبلا مقدمات، ليقطع حبل الهواجس، قائلاً:

- أخوك محمد عبد الإله العصار، شاعر يمني!

كنت أكبره بسنوات قليلة، ولم أدر أن الحياة، ستربط بيني وبينه، لنتجاور في السكن والمكتب، وتتآخى القلوب إلى نهاية العمر، وشعرت أن صداقته قدرٌ، وكأن الغريب للغريب صديقٌ، كان رحمه الله كتلة من المشاعر الحساسة، ويمتلك جراءة ومعرفة تفوق عمره، لا يتردد في فعل أي قناعات تتملكه، ولا يصمت على ضيم، ولا يداهن أي فكرة، لا تنسجم ورؤيته وتراكمه المعرفي، ليصبح في سنوات معدودة رئيساً للقسم الثقافي، ويكسب صداقة معشر الكتاب والأدباء في الوسط الثقافي، ويتحول منزله المتواضع إلى منتدى ليلي، يلتقي فيه الشعراء والكتاب كل ليلة، لتبادل المعارف وقراءة نصوصهم الشعرية والقصصية، وكثير من نصوص تلك المرحلة، كان لا بد أن تمر تلك النصوص من ذلك المكان، ويطلع عليها الأصدقاء قبل نشرها، والأصدقاء له صاروا من كل مدن المملكة، وقد تعددت صداقاته المنوعة، والأصدقاء هم أكثر من أن أحصيهم، لكن لعل الشاعر الصديق محمد جبر الحربي، يعدُ أولهم وأقربهم محبة له، وقد رابطته مودة بالشاعر اليمني الراحل محمد العصار رحمه الله، وصداقة نقية وأصيلة مع أسرته إلى الآن.

تعرفت في فترة لاحقة على والده رحمه الله وأشقائه، فقد كان الوالد يملك مقهى في حي الروضة، وكانت العلاقة بين الأب وأبنائه مدهشة في بساطتها، ويبدو أن هذه العلاقة الحميمة بين الأب وأبنائه وبالذات محمد البكر، قد شكلت في داخله روح الشاعر الممتلئ بالعنفوان والشعر، وكان المقهى ذاته في بعض الأحيان، يتحول إلى منتدى أدبي حيث يحلو لنا السهر في داخله.

حكى محمد في بعض محطات رحيله الدائم، ليلقي الضوء على بعض مفردات حياته، فقد ولد في قرية نائية في محافظة ذمار، واضطر إلى الرحيل مبكراً إلى السودان، لكي يتلقى تعليمه الأولي المتوسط والثانوي، ويرافق والده لعدم وجود مدارس في القرية، وليرحل مجدداً إلى عدن مع والده، وكانت عدن بعد ككل الجنوب اليمني، لم تزل تحت الاستعمار البريطاني، وكان الوالد يعمل حارساً ليلياً في مينائها، ويبدو أن الوالد قد انضم إلى ثوارها، وأصبح مكان سكنه الليلي، مخبأً سرياً لسلاح ثوارها، وكان الطفل يرصد كل تلك التحولات، وقد بدأ رحمه الله في كتابة رواية، تحفل بتفاصيل تلك المرحلة المبكرة من حياته، ولست أعرف ما إذا كان قد أكملها، أم فُقدت..؟

وصلني في الأيام القريبة، نسخة من الديوان الشعري الثاني له، أرسلها شقيقه الكاتب عدنان العصار، بعنوان (قصيدة حضرموت) الذي صدر للشاعر بعد رحيله، ووجدت في القصيدة التي تحمل اسم الديوان، كل تلك الهواجس البعيدة، ومنها قوله:

صلاتي مقدسة فامنحوني

فضاء بلا لغةٍ

وامنحوني تعاويذكم

كلما أخرجتني من الأرض أسرارها

كلما شاخ حزني السعيد..

وضرجني بحركم بالغمام

هكذا جئت مثل من قتلوهم طليقاً

فررت من الأسر

من جسدي

احتشمت السلام على قبر

هود

احتشمت السلام

وأفنيت عمري على ناقة الله

مقطع من قصيدة طويلة، حملت اسم ديوان يتشكل من قصائد أخرى، وكان الشاعر قد أصدر ديوانه الأول (بوابة في شكل الوطن) 1985 م أثناء وجوده في الرياض، وقد غادر الرياض مختاراً بعد احتلال أمريكا للعراق، ورفض كل المغريات التي قدمت له، للبقاء لعدم رغبته الحياة هنا - بإقامة، وسافر إلى وطنه ليتم له رئاسة تحرير جريدة الوحدة في صنعاء، ويرأس بعدها مجلة معين إلى أن توفاه الله، والعصار رحمه الله وحدوي ووطني بشكلٍ عجيب، وأذكر له موقفاً طريفاً، إذ كان ذات مساء في الرياض، يحتفي بالشاعر اليمني الراحل الكبير محمد الشرفي رحمه الله، وكان الشرفي عائداً من بغداد، حيث كان يعمل في السلك الدبلوماسي لبلاده، وقد حضرت تلك الليلة برفقة المبدع الراحل عبد الله بامحرز رحمه الله، وكانت ليلة عبقة بالجمال والشعر والتفاصيل، والحق أن صديقي العصار رحمه الله، قد فتح لي نافذة كبيرة على الحراك الثقافي والأدبي والفكري في اليمن، وقراءة كل المنتج الموجود في مكتبته، وهو ما لم يكن يتيسر لي لولا صداقته، والاطلاع على نتاج أعلام أدبية يمنية مهمة، فحدث في نهاية تلك الليلة ما لم يكن في الحسبان، فالشرفي الشاعر الضيف، كان يرغب في سماع شيء من نتاج المبدع عبد الله بامحرز، وقرأ أبو صلاح تلك الليلة، أحد نصوصه من الحقول المعروفة، وكان عبد الله كما يعرف كل من عرفه، يحفظ نصوصه القصصية عن ظهر قلب، ولما انتهى عبد الله من قراءة النص، فوجئنا بالعصار يغضب وينفعل على غير المتوقع، ضحكنا كثيراً أنا والشرفي بعد ما خرج بامحرز، الفنان والإنسان الذي يحفل بالجمال والوداعة والحب، وقد اكتشفنا أن سبب غضب العصار، بصقة فعلها بطل نص عبد الله بامحرز على الوطن لحظة مغادرته.

لعنة السياسة، تفعل أفاعيلها بالمبدع، فهذا المبدع الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح، الذي كنت قد زرته في بيته برفقة العصار والشاعر الكبير محمد الثبيتي، وبعض من أعضاء الوفد السعودي في الأيام الثقافية السعودية في اليمن، يشخص تجربة محمد العصار الشعرية، ويكتب مقدمة لديوان قصيدة حضرموت، قال فيها:

محمد عبد الإله العصار شاعر مبدع، وكاتب مبدع أيضاً.. هذا الشاعر المبدع، شغل نفسه بكتاباته الصحفية، وبإسهامه في متابعة الأحداث في العالم العربي والعالمي، الأمر الذي جعل الآخرين يقولون : لقد حقق الرجل ما يكفي من وجوده مع الكلمة عبر الصحافة، وإن كل ذلك قد حرمه نعمة التواصل مع الشعر، هذا الفن الذي أحبه، وكان قد وجد نفسه فيه، أكثر من أي وسيلة من وسائل التعبير الأخرى.

ويطرح الدكتور المقالح سؤالاً مفصلياً: ما السبيل إلى أن يعود الشاعر نفسه إلى الشعر الذي أحبه وتمثله؟، ويجيب بقوله: هناك مطالب الحياة التي تتزايد، والتي امتزجت بقدر كبير من المسؤولية تجاه الوطن، وما يزدحم به صدره النبيل من مواجع، وقلبه المشتعل بالأناة والحسرات..

ويضيف الدكتور المقالح في مقدمته: منذ وقت ليس بالقصير، تمنيت على هذا الشاعر المبدع، أن يعطي جزءاً ولو يسيراً من وقته للشعر، لكن من يعرفه ويعرف ظروفه أكثر مني، يؤكد أن ذلك يبدو عسيراً على الأقل في الوقت الراهن، فقد غمس قلمه في حبر الصحافة، ولن تستطيع قوة في هذا العالم حتى ولا قوة الشعر بلغته ورهافته، أن تنتزعه من هذا الواقع الذي وقع فيه باختياره، فامتلك جهده ووقته وموهبته.. لكن ما يبهجنا أنه ما زال بين حين وآخر، يجد قليلاً من الوقت، ليمارس شغفه ولهفته إلى كتابة الشعر، ومتابعة الجديد في عوالمه التي اتسعت في الآونة الأخيرة، وتنوعت وصارت تضم حساسيات واتجاهات مختلفة.

وخير ما اختم به هذا السطور عن صديق، قاسمته الفرح والوجع وحرف الكتابة والحياة، مقطع من قصيدة قصيرة يصف فيها رحلته مع الحياة بعنوان (أنت.. لا أكثر!) قال فيها:

ما تعب الصقر..

ولا تعب الرحّال

أسفار في بدن الأرض

وأسفار كبرت

والرجل على حد التنفس

سجال.

• لقطة أخيرة من الديوان:

إهداء: إلى الصابرين الأربعة أولادي.. زياد.. بشار.. محمد.. علياء.. وأمّهم أوفى النساء وأصبرهن..

الشاعر/ محمد عبد الإله العصار

- الرياض