Saturday 13/12/2014 Issue 455 السبت 21 ,صفر 1436 العدد
13/12/2014

أثر الكتابة في التنظير الصرفي

لو كان للحركات رسم مثل الحروف لما وقع خلاف بين النحويين في علاقتها النطقية بالحرف (الصامت)، ذلك أنهم اختلفوا في موقعها من الحرف، ويجزم العكبري في اللباب (1: 61) بأنها معه، قال «والحركة مع الحرف لا بعده ولا قبله» وهو مذهب منسوب إلى الفارسيّ (سر صناعة الإعراب لابن جني، 1: 37)، ويذكر أنّ قومًا منهم ابن جنّي ذهبوا إلى أنّ الحركة بعد الحرف، وأيّد العكبري القول الأول بأمرين «أحدهما أن الحرف يوصف بالحركة فكانت معه كالمدَّ والجهر والشدَّة ونحو ذلك، وإنما كان كذلك؛ لأنَّ صفة الشيء كالعرَض، والصفة العرَضية لا تتقدَّم الموصوف ولا تتأخر عنه؛ إذ في ذلك قيامُها بنفسها»، وهذه حجة منطقية، وليس يعني القول بأن الشيء متحرك كون الحركة جزءًا منه؛ إذ التحرك غير الحركة، وقال (1: 62) «والثاني أنَّ الحركة لو لم تكن مع الحرف لم تقلب الألف إذا حرَّكتها همزة ولم تخرج النون من طرف اللسان إذا حركتها بل كنت تخرجها من الخيشوم، وفي العدول عن ذلك دليل على أن الحركة معها»، وهذه حجة احتج بها الفارسي ووصفها ابن جني بالقوّة، والحق أنْ ليس فيها استدلال فأثر الحركة في النون حاصل وإن جاءت بعدها، وأما الألف فالزعم بتحركها مردود لأنّ الألف حركة، والحركة لا تليها الحركة، وهم أنفسهم زعموا أن الألف ساكنة.

وعلى الرغم من وصف ابن جني حجة أستاذه بالقوّة ذهب إلى أن الحركة بعد الحرف لا معه، وأيّد مذهبه بأمرين(اللباب، 1: 62) «أحدُهما أنَّك لَمَّا لمْ تدغم الحرف المتحرَّك فيما بعده نحو (طَلَل) دلَّ على أنَّ بينهما حاجزًا وليس إلَّا الحركة، والثاني أنَّك إذا أشبعت الحركة نشأ منها حرف والحرف لا ينشأ منه حرف آخر فكذلك ما قاربه» (وانظر: سر صناعة الإعراب: 1: 34)، يعني لو أن الحركة كانت جزءًا من الحرف السابق للزم القول بأن حرف المد متولد من ذلك الحرف، أي أن الألف في (ضارب) ناشئة من ضاد (ضرب)، ونجد هنا أثر الكتابة في توهم أنّ الألف حرف يأتي بعد الفتحة، والألف في الحقيقة فتحة طويلة، إذ لَمّا مطلت الفتحة في (ضرب) تحولت إلى فتحة طويلة في (ضارب).

ويسوق العكبري الردّ على دليلي القول الثاني أي مجيء الحركة بعد الحرف، فقال (اللباب، 1: 63) «والجواب عن الأوَّل أنَّ الإدغام امتنع لتحصُّن الأوَّل بتحرُّكه لا لحاجز بينهما كما يتحصَّن بحركته عن القلب نحو (عِوَض)»، وليس هذا بردٍّ مقنع؛ فالحركة لم تحصّن المثلين من أن يُدغما، قال ابن جني (سر صناعة الإعراب، 1: 34) «فظهور التاء في وَتِد ما دامت مكسورة، وإدغامها إذا سكنت [ودّ] دلالة على أن الحركة قد كانت بينهما». وأما الجواب عن الثاني فمن وجهين (اللباب، 1: 63): «أحدهما أنَّ حدوث الحرف عن الحركة كان لأنَّها تجانس الحرف الحادث؛ فهي شرط لحدوثه وليست بعضًا له؛ ولهذا إذا حُذف الحرف بقيت الحركة بحالها، ولو كان الحادث تمامًا للحركة لم تبق الحركة»، ونلاحظ هنا كيف أثر غياب رسم الألف من الكتابة بالتوهم أنها حذفت، ولَمّا كانت الفتحة صوتيًّا تخلفها ظنّوا أنها غير الألف، والصواب أن الألف (الفتحة الطويلة) قصّرت أي عادت فتحة قصيرة، وإمعانًا في ترسيخ هذا المفهوم الموهوم عقب العكبري بقوله «ومن سمَّى الحركة بعض الحرف أو حرفًا صغيرًا فقد تجوّز؛ ولهذا لا يصحُّ النطق بالحركة وحدها»، ولعله يشير كما ذكر محقق اللباب إلى ما جاء في (الخصائص لابن جني، 2: 315)، إذ قال «الحركة حرف صغير، ألا ترى أنَّ من متقدّمي القوم من كان يسمّي الضمة (الواو الصغيرة)، والكسرة (الياء الصغيرة)، والفتحة (الألف الصغيرة)، ويؤكد ذلك عندك أنَّك متى أشبعت ومطلت الحركة أنشأت بعدها حرفًا من جنسها»، وابن جني على الرغم من هذه الملاحظة لم يفطن إلى أن الألف ليست مسبوقة بحركة، على الرغم من قوله في النص الآخر الذي نقله المحقق من سر صناعة الإعراب، 1: 26 «فقد ثبت بما وصفناه من حال هذه الأحرف أنها توابع للحركات، ومتنشِّئة عنها، وأنّ الحركات أوائل لها، وأجزاء منها، وأنَّ الألف فتحة مشبعة، والياء كسرة مشبعة، والواو ضمّة مشبعة». ويبدو أن القول بتولد المدود من حركات مجانسة تلازمها في وهمهم أشكل فجاء الردّ في قوله في (اللباب، 1: 63) «والثاني لو قدَّرنا أنَّ الحركة بعض الحرف الحادث لم يمتنع أن يقارن الحرف الأوَّل كما أنَّه ينطق بالحرف المشدَّد حرفًا واحدًا وإن كانا حرفين في التحقيق إلاَّ أنَّ الأوَّل لَمَّا ضعف عن الثاني أمكن أن يصاحبه والحركة أضعف من الحرف الساكن فلم يمتنع أن يصاحب الحرف». وواضح هنا أن الاحتجاج ناقض للمراد؛ فإن كان المشدد حفين فهذا دليل على أن الحرف والألف حرفان، وأما مصاحبة الألف إيّاه فهي مصاحبة الحركة إيّاه ولا تناقض بين المصاحبة والتوالي، ولولا الانفصال بين الحرف وحركته لما صح القول بالإعلال بالقلب أو التسكين أي تقديم الحركة على الحرف، كما في الفعل (يطْوُل) تتقدم الضمة فيصير (يَطُول)، ولما طرحت على لام التعريف وحذفت الهمزة في مثل (الأَحْمر) التي تصير (الَحْمَر).

والأمر البيّن أنّ الكتابة ذات أثر في هذا الجدل ما كان له أن يكون لو جسدت الحركات بحروف كما في اللغة الإنجليزية.

- الرياض