Saturday 13/12/2014 Issue 455 السبت 21 ,صفر 1436 العدد

الثرثارات

لدينا أدوية لجعل النساء تتكلم. لكن، ليس لدينا شيء لجعلهن يصمتن.

أناتول فرانس

(1)

في رواية قصيرة جداً، صدرت قبل ما يقرب الثمانية عقود. لم تتوقف الشخصية الرئيسية فيها، عن الثرثرة في مختلف مجالات الحياة التي تهمها. وبما أنها تهتم بكل شيء، تقريباً، فإن النص يظهر لنا، عن قصد أو غيره. أن الثرثرة سلاحٌ مضاد للضجر لصاحبه، فيما يمكن أن يكون، في المقلب المقابل سلاحاً للقضاء على عقل الآخر بالكامل. لكن ممارسة الثرثرة، في رواية قصيرة لكاتب(ة) مجهولة، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أنها علاج مضاد للكآبة. فقد شرحت بطلة الرواية على مدار فصل كامل، وهي سيدة عجوز ولدت في النصف الأول من القرن التاسع عشر. كيف يمكن تلافي الحرب العالمية الأولى، من وجهة نظرها، واضعة نفسها في موقع القدرة على التأثير في مجرى الأحداث التي كانت تخبط في الواقع كموج المحيط.

من جانب آخر، تدل هذه الرواية (لكاتب (ة) مجهول الاسم وما يعرف فقط أنه عاش (ت) بالقرب من باريس فقط. فقد نشرت الرواية بعدما عثر عليها في محل لبيع الأنتيكات ملفوفة بجراب جلدي ومكتوبة بخط أنيق جداً ونشرت دون اسم الكاتب (ة) وتقع في 86 صفحة من القطع الوسط) التي تدل اللغة التي كتبت فيها والاهتمامات التي تطرقت لها أن من كتبها امرأة وليس رجل. تدل على أن في الثرثرة قدر هائل من الديمقراطية. فالثرثار، وإن كان يعلم مسبقاً أن ما يقوم به لا يزيح الرأي العام عن الجادة التي يقف عليها. إلا أنه يمارس ثرثرته باعتبارها حقاً شخصياً في إبداء الرأي لا تمنحه الدساتير قبل أن يكون منحة خالصة من الطبيعة نفسها.

تهيئ الثرثرة من حيث هي ممارسة ذاتية، تهيئ الأسس العملية لبناء الرأي وتكون حاضنته الأولى قبل أن يتركزُ متحولاً إلى رأي واضح لا لبس فيه. غير أن الرواية لا تذهب إلى هذا ذهاباً واضحاً وصريحاً، إذا لم يكن همها تكوين رأي خاص بالأحداث التي تجري بقدر ما يهمها الهذر الكامل. ذلك أن السبب في لجوء البطلة إلى الهذر والثرثرة، لم يكن سبباً شخصياً نتجَ عن عادة عائلية موروثة. بل كان بسبب صمت الذكور المطبق الذي خلفته الحرب الأولى. إذ تذكر الراوية أن القرية فرغت كلياً من الرجال الذي ماتوا في الحرب على الجبهات، وحين أن النساء بقين وحيدات، فإن السلوى الوحيدة كانت الثرثرة التي تحولت من مجرد هذر خالص بلا أي معنى إلى رأي في كل ما يحيط بالمجتمع القروي البسيط. ما حدا بالبطلة أن تفرغ فصلاً كاملاً تدلي فيه برأيها بالحرب ومعناها وآثارها وكيف يمكن تجنبها.

من الذي يتكلم في الرواية؟ الشخصيات التي دُرست كل شخصية على حدة ثم بدأت تندمج شيئاً فشيئاً في نسيج النص؟ أم الراوي الذي يحدد مساره بعد أن يرسم خطته ليكون شاهداً على عصره وقضاياه؟ أم أن الزمن نفسه هو من يتكلم وما الراوي وشخصيات الرواية سوى عوامل وجدت في طريق النص وتناغمت كلياً مع المسار الذي حدده الزمن؟ أم العقل الذي يتربعُ رأس الراوي وينتج حكايات كثيرة ويتحدث بألسن ولغات ويمتلك الرجاحة أو الجنون؟

تأخذنا الأسئلة السابقة إلى تصنيفات الرواية، خصوصاً وأن ما درج على تسميته بالرواية - التسجيلية - يأخذ في يومنا هذا أبعاداً تذهب بالنص من الحالة الإبداعية الصرفة (التأليف) إلى الحالة التقنية (التسجيل) التي تفترض وجود كاتب متمرس يمكنه صياغة ما يسمعه من الشخصيات - الحقيقية - التي يستمع إليها ويسجل أقوالها ثم يقولب هذه التسجيلات في نص روائي. ثم تحيلنا الأسئلة نفسها، إلى النزاهة التي يتمتع بها الكاتب الذي يضع اسمه في النهاية على عمل، روائي، أحياناً ليس له الفضل في إنجازها تخييلياً، وبالتالي ليس له الحق في كتمان مرجعيته، التي هي بالتأكيد شخصية أخرى.

(2)

تماشياً مع الأسئلة التي طرحت، هنا، واقترابا أكثر من النص المنشور عربياً على مستويات مختلفة. اشتغل عبده خال على ترمي بشرر (روايته الفائزة بالبوكر 2010) اشتغل بأسلوب يخلط ما بين البراعة في صياغة نص روائي، ثم الذهاب في المخيلة - التركيبية - للأحداث التي تشكل متن النص، إلى لصق أحداث وصفات وأحياء سكنية بأسماء خيالية، رغم أن يقرأ النص، حتى لو كان من خارج النطاق الجغرافي الذي دارت في أحداث الرواية، يعرفُ، أن مسرحها جدة. والحق أن خال، المعرف عنه اليوم بين أقرانه كروائي متمكن وقادر على الذهاب بالنص إلى ما يرمي هو إليه. ذهب في هذه الرواية إلى الاعتراف أن للنص مرجعاً حقيقياً، وأنها نصاً تسجيلياً، مصدره تلقط أخبار الصحف ثم شخص آخر لا ندري من هو فعلياً. وهذا خلطٌ يجعلُ يدبُ الحيرة بين المرجعية الحقيقية والمرجعية الصحفية ويظهر في النهاية قيمة الموهبة التي سعت لإخراج نص كهذا، حتى لو كان، نص خال، يحتمل تشحيلاً كبيراً في عدد كبير من الفصول.

والحق أن الفارق بين الأحداث التي ترويها الرواية ا لفرنسية والأحداث التي يرويها خال في ترمي بشرر، أن الأولى تميتُ الذكورة في المجتمع، ليس موتاً مجازياً فقط. فالرجال ماتوا في الحرب، وهذا الموت موتٌ بينٌ لا لبس فيه. بينما في رواية خال فإن الهذر اختصاص ذكوري فيما النساء غُيبن عن القدرة على التأثير سواء في الرأي أو الفعل، لصالح منظومة اجتماعية قاسية، تجعل من المرأة كائناً مهملاً لا رأي له حتى على سبيل الثرثرة لا أكثر، حيث يستشف من سياق النص الذي يكتبه خال، أن المعنى من وراء هذا التغييب، إغراق روايته بالواقعية التي يعيشها مجتمع الرواية بحسب آراء النخبة الثقافية، لا حسب ما ينادي به الواقع نفسه. والتأكيد على رأي هذه النخبة الساعية إلى إحداث شرخ في المنظومة الاجتماعية لصالح تحرك المرأة ونقل ثرثرتها من حيز النافل والعادي إلى العنصر المؤثر أو القادر على التأثير خارج المخادع المقفلة.

(3)

إن العودة إلى تأكيد التكامل بين طرفي المجتمع، سواء داخل النص ضمن بنية أدبية معقدة ومتداخلة، تغرف من الحياة بقدر ما تستفيد من المخيلة. أم خارجه، في فضاءات الحياة الأوسع والأشمل. هي تأكيد الضرورة التي ينطلق منها بناء مجتمع سليم، قائم على حرية الرأي جهاراً، بينما لا تزال المجتمعات، سواء تلك التي تخطت حدود الحداثة إلى ما بعد حداثة مهزوزة، أو بعض المجتمعات التي لا تزال ما قبل الحداثة ولا تسعى لبلوغها. هو تأكيد على إعلاء شأن الحقوق الفردية المنضوية تحت هم جماعي لا يراد منه سوى ترسيخ القيم المثلى لعالم ينحو يوما بعد الآخر نحو إنتاج المزيد من الأدب وبالتالي المزيد من جرعات حرية الرأي التي لا يمكن لها أن تنفصل عن الأدب. فحرية الرأي، التي بشكل ما قاصر عن فهمها بمعانيها كافة، تحصر في الفعل السياسي، هي بالأصح مستوعبٌ لكل ما يدور في الرأس من تفاعلات سواء كانت سياسية أم اجتماعية تنطلق من البرلمان أو الشارع أو حتى من بين صفات رواية.

لا تنقلنا هذه الثرثرة من منصة الاجتماع والسياسة إلى الأدب فقط، إنما المراد لها، النظر إلى الأدب بوصفه وجهة نظر قياسية بالنظر إلى غيرها. لا تهدف فقط إلى تحريك الآسن من مستنقعات الفعل البشري. إنما، تجاوز النظرة إلى الأدب بوصفه خيالاً لا يمت إلى الوقائع المعاشة بصلة. وفي هذه الحالة، فإن عبده خال نجح في ترمي بشرر إلى فرض وحدة قياس جديدة خليجياً على الأقل تقول أن أي أدب لا يمس الواقع أو يستخرج من الواقع ما يسعى لطرحه هو أدب عاجز عن إنتاج منظومة تغييرية تنقل المجتمع والأدب معاً من مكانهما حيث يجلسان إلى أماكن أخرى لا يمكن أن نطأها سوى بجهد حقيقي ومكثف حتى لو كان رواية.

سيمون نصار - باريس