Saturday 13/12/2014 Issue 455 السبت 21 ,صفر 1436 العدد

الحاجة إلى (السرديات) أكثر إلحاحا (بالطبع)!

ليس ثمة ما يدعو للعجب من تمادي (السرديات) في الحقل الأدبي، مقارنة بـ(الشعريات)-رغم اضطلاعهما معا بالهم الجمالي (piotics) للنص الأدبي شعرا ونثرا-مع تلك الأطياف المفعمة بالإيغال الفاتن في الأنساغ الإنسانية، ومقاربة حاجات البشر للقيم العليا في الحياة، إضافة إلى تعددية الصيغ والتقنيات اللغوية، والتي يزخر بها الفن الروائي، الذي يتجلى كغابة غنية بالنباتات المتنوعة في جمال لونها ومذاقها ورائحتها، بتنسيق تفاعلي التنوع من (رجال) الغابة الروائية.. لتبدو غابة الرواية الكلية غابات متسقة الأثر الجمالي، رغم أن لكل منها طابعه (الخاص) وأصدائه المستقلة. ففي فضاء القراءة العربية، نجد أن الذي يهيم بأجواء (الحارة) يتجه إلى الرائد (نجيب محفوظ) مباشرة، ومن يعشق البحر ومرافيئه، يبحث عن النوخذة العتيد (حنا مينا)، ومن يريد الذهاب بعيدا حيث الصحراء بأصواتها الطقوسية، فليعقد صداقة مع زعيم الطوارق (ابراهيم الكوني)، ومن يريد العودة إلى المدينة من أبوابها الخفية المرتبكة، فليس أمامه سوى معرفة مقهى (طنجة) الأثير الذي يجلس فيه الشحرور المغربي (محمد شكري)، أما المولعون بتفاصيل الواقع وإسقاطاته السياسية على المجتمع، فإنه سيكون قطعا على موعد مع اليساري العتيق (صنع الله إبراهيم)، والذين يعشقون استرجاعات التاريخ الفنية، فأول من يتبادر للذهن قطعا صاحب سمرقند (أمين معلوف)! وفي اتجاه آخر داخل غابة الفتنة، فإن الذين يستهويهم المتمردين على معيارية التجنيس الروائي، بخلق تقنيات وأساليب سردية مبتكرة في ثنايا التفصيلات البنائية للسرد، سيجدون حتما من يتكفل بالاستجابة لاهتماماتهم التقنية، ولعل منهم (الطاهر وطار) و(رؤوف مسعد) و(فاضل العزاوي)، أما الموجعون باللغة (الشعرية) الأنيقة فعليهم بلقاء المناضلة الوطنية والجمالية (أحلام مستغانمي)..! وهذا التلقي الباذخ للجمال المتنوع نجده-أيضا-في اتجاه فضاء غابات العالم الآخر، فمن ينفر من صوت المؤلف الحقيقي، يجد غايته الموضوعية لدى (فلوبير)، ومن يهجس بالتشظي النفسي للشخصية الذي يجعل منها شخصيتين اثنتين، (بمنتهى) الصدق الاستكشافي للدوافع والغرائز الإنسانية (السرية)، فإن الهائل (دستوفسكي) يقبع بين أبطاله منتظرا ولع التلقي، والذين يريدون قراءة أكثر عمقا وتعقيدا وسبرا للأغوار المألوفة من قضايا الإنسان المحورية (الحب.. الزواج.. الهوية.. الحرية..) فإن طيف (كونديرا) يلوح من قريب بامل البهاء، أما الذين يريدون هذه القراءة الأعمق في (القضايا الإنسانية العلوية) ذات الاستشراقات الروحية (كالحياة.. والميلاد.. والموت..) فإن زوربا-هناك- يقرع أجراس الكنيسة ملفتا النظر صوب (نيكوس كازانتزاكس)، أما من يهجس بالزمن وتحولاته وتأثيره في اللحظة الإنسانية الحاضرة، فعليه بتحمل أعباء آلة الزمن المعقدة التي صنعاها معا (جيمس جويس ومارسيل بروست) من خلال زمنين (جديدين): الحاضر بإيماءات الماضي وقوته الكامنة في اللاوعي الإنساني، والحاضر الذي لا يمكن القبض عليه إلا بصيغة اللحظة الماضية.. .. وختاما.. هل يمكن القول إن (السرديات) بذلك (الثراء) الإنتاجي، قد سحقت (الشعريات)، حتى في زمن الطفرة الشعرية؟!

فيصل الجهني - جدة