Saturday 13/12/2014 Issue 455 السبت 21 ,صفر 1436 العدد
13/12/2014

أبحاث في الهوية (2)

وإذا تجاوزنا عصر ما قبل الإسلام، وعصر النبوة، ودلفنا إلى عصر الخلفاء الراشدين، وجدنا حال العربي قد تبدلت، فالذي كان يقتل أخاه على الماء والكلأ ويطوف للمال آفاقه أصبح يشاركه في ذلك، ويؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، وأصبح ينذر نفسه لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وأصبحوا في كتابهم الحكيم يضارعون أهل الكتب السماوية، وبتجمعهم، وعظمائهم يضارعون ملوك فارس والروم؛ ولذا لا نعجب إذا وجدنا أن الوعي بالذات قد انتقل في وجدان الإنسان العربي حيال نفسه وحيال الآخرين، فوجدنا المقارنات بين محمد صلى الله عليه وسلم وعظماء الأمم حتى قال عروة بن مسعود: لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمدا» فأصبح محمد يوازن بالملوك، ويفضل عليهم بطاعة أتباعه له ومحبتهم إياه. وقيمة هذه المقارنة تظهر حين نتذكر قول أبي سفيان عن الرسول صلى الله عليه وسلم: « قد أمر أمر ابن أبي كبشة. إنه ليخافه ملك بني الأصفر»، فالرسول عند قريش ابن أبي كبشة، وهو ما يبين منزلة العرب في أنفسهم لدى الأمم الأخرى ومحمد بينهم، وقد أصابه تحول يبينه القسم الآخر من الكلمة «يخافه ملك بني الأصفر»، وكذلك حين اقترح عمر بن الخطاب على الرسول أن يلبس حلة سيراء يلبسها لوفود العرب إذا قدموا عليه، وكان عطاردا التميمي يغشى الملوك، ويصيب منهم.

فمقارنة النبي بالملوك والعظماء، لم تكن لدى أصحابه كما في موقف عمر بن الخطاب، وإنما أيضا لدى من كفر به كما في موقف عروة بن مسعود وأبي سفيان. وهذه الحالة تخالف الحالة التي كان عليها محمد وأصحابه في بداية الأمر» إذ أنتم أذلة مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس».

وقد بدأ هذا التحول في النظرة إلى الذات العربية بعد وفاة النبي، بل قبل ذلك حين أرسل الرسول جيشه إلى مؤتة، وتبوك، وكاتب الوفود يدعوهم إلى الدخول في دينه الجديد الذي يبشر به. ويبين حجم المفارقة التي حدثت للموقف العربي ولوعيه في نفسه في ذلك الزمن موقف كسرى من الرسول الذي جاءه من محمد بن عبد الله، إذ غضب أشد الغضب ومزق الرسالة ليس لأنه يدعوه، أو يهدده وإنما لأنه أورد اسمه قبل اسم كسرى وهو يخاطبه حين قال: «من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس» فقال: «عبد حقير من رعيتي يكتب اسمه قبلي».

هذا الوعي بالذات لدى العرب في زمن النبوة، وإمكانية تحقيق شيء يشبه ما لدى الأمم الأخرى، يجعلهم يجرؤون على مقارنة محمد بن عبد الله بمن رأوه أو سمعوا عنه من الملوك والزعماء، يتحول في خلافة عمر إلى أمر أكثر بروزا حيث أصبح وعيا بأهمية الجماعة المؤسسة للدولة والحضارة التي أمامهم بوصفهم هم الجماعة ذات الأهمية، والفاعلة في هذا الاجتماع، ولذا وجدنا الأحاديث عن أهمية العرب ومحبتهم كحديث أحبوا العرب لثلاث، أو حب العرب إيمان. وهي أحاديث وإن كان بعضهم يضعفها إلا أنها تدل على أن هناك شعورا لدى واضعي هذه الأحاديث بقيمة العرب كشخصية، وعرق يستحق الحفاظ عليه لذاته، والعناية به والبحث عن مكوناته، وهو ما جاء في القول المنسوب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «العرب هم مادة الإسلام»، ثم وجدنا صدى لهذا بما كان يفعله عمر من سماع أخبار العرب وأشعارهم ممن يفدون إليه من الشعراء والرواة على اختلاف مشاربهم، فقصته مع متمم ابن نويرة في رثائه لأخيه عبد الله، وقصة لبيد والأغلب وسواهما ممن كان يسألهم عن أشعارهم في الجاهلية أو مما قيل في آبائهم، أو يستنشدها حفاظا على تلك المادة الأصلية في عصر ما قبل الإسلام، وتطور بعد ذلك على يد معاوية بن أبي سفيان حين كان يستقبل الوفود من القبائل والرواة والشعراء ويسألهم عن القبائل، ومفاخرها، ويفاضل بينها، ويذكر أيامها مما يمثل نوعا من الأهمية بالغا في تكوين الأمة الحديثة التي تكونت على يد الخلفاء الراشدين، إلى أن أصبح مذهبا كاملا انقطع له العلماء والإخباريون واللغويون وسمي فيما بعد بـ»عصر التدوين»، وهو تدوين اللغة، والشعر، وأخبار العرب، وأيامهم، وأنسابهم، وأصنامهم، وأسماء خيولهم، وإبلهم، وسيوفهم من الضياع والنسيان. في ظل هذا التطور الكبير للأمة، وفي ظل دخول الأمم المختلفة من العجم وشيوع ما سمي بـ»اللحن» انطلقت الجهود لتسجيل كل ما يمكن أن يخطر بالذهن مما يتصل بالعرب، حتى ولو لم يكن له صلة مباشرة باللحن واللغة، وللحفاظ على تلك الشخصية، وتنقيتها من كل ما يشوبها من تأثير الداخلين فيها الجدد، والتأكيد على أن تلك المكونات مهمة لذاتها بوصفها «عادات العرب»، «وأخلاق العرب».

مما يعني أن هذه الأمة هي امتداد للأمة السابقة، وجزء منها وليست أمة جديدة، ولذا وجدنا عبدالله بن عباس رضي الله عنه، يفسر القرآن بالشعر العربي فيما قبل الإسلام فلا يورد كلمة من القرآن إلا ويورد شرحها وطريقة استعمالها ببيت من الشعر، ويؤثر عنه أنه يقول: إن التفسير على أربعة أنواع منه ما تعرفه العرب من لغتها وهو أكثره، في نوع من المزج المعرفي الدقيق بين الإرث القديم والإرث الجديد وأنه جزء منه لا ينفصل عنه، ومن رغب في أن يفهم هذا الكتاب الذي هو دستور هذه الأمة الناهضة فعليه بدستور الأمة السابقة والذي قال فيه عمر بن الخطاب: «الشعر ديوان العرب»، وقال فيه عمر أيضا: «كان الشعر علم قوم ليس لهم علم سواه».

وإذا نظرنا إلى العلاقة الخاصة بين عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس التي جعلت عمر يقدم ابن عباس مع كبار الصحابة وقدماء الأنصار والمهاجرين، ويصفه بأنه فتى الكهول، أدركنا أن هذين الرجلين يلتقيان بطريقة التفكير والنظر إلى الأشياء، وينطلقان من المنطلقات نفسها في أهمية ربط الأمة الحديثة بالأمة القديمة، ورفع شأن الأقدمين، ويمكن أن نربط بين هذا وبين النهي عن ذم من كفر من الغابرين بأنه «يؤذي الحي ولا يصل إلى الميت»، فهو إذا امتداد له، والحفاظ على صورة القديم بالرغم من عداوته أحيانا لله ورسوله تحافظ على صورة القديم التي هي جزء من صورة الحديث.

ولا يقتصر هذا على الشعر، والخطب، والأمثال بل يتجاوزها إلى العادات والتقاليد، واللباس، حتى أثر عن الأحنف بن قيس وهو سيد من سادات العرب أنه يقول: «لاتزال العرب عربا ما لبست العمائم، وتقلدت السيوف، ولم تعد الحلم ذلا ولا التواهب فيما بينها ضعة». هذه المقولة تجعل العرب موضوعا، وليس عرقا، فالعرق لا يثبت حين تختلف طباعه وأخلاقه، فإذا اختلفت هذه الطباع فإن العرق يتحول، ولا يعود العرب عربا كما يقول وإنما يصبحون شيئا آخر. هذه المكونات –هنا- ليست عادات وحسب ولكنها أيضا أخلاق، وليست حسية وحسب ولكنها معنوية، مجموعة من الأخلاق والعادات واللغات، والمرويات، والأشعار والدين هي التي تكون العرب، واختلال واحد من هذه المكونات يخل بهذه الحقيقة «العرب».

هنا يتأسس الوعي بالذات العربية بعدما لم يكن، بوصفها ذاتا متميزة لا تختلف عن الأمم الأخرى، وتتحدد مقوماتها لدى المعنيين بالأمر بوصفه هو المادة التي تكون الدولة الحديثة (في ذلك الزمن)، والتي ينبغي الحرص عليها في مواجهة الدواخل وأصحاب الثقافات واللغات والعادات الأخرى الذين يمثلون لونا من اللحن (الميل عن جادة الصواب)، وهذا اللحن كما يكون في اللغة يكون أيضا في الصوت حيث تكون اللكنة، ويكون في العروض ويكون أيضا في العادت والتقاليد.

- الرياض