مازال الحديث حول بعض مصنفات معالي الشيخ، وهنا تكملة للإشارات الضوئية السابقة:
5- أوَكُلَّمَا جاء مَن لم يرتض الحديث في كتاب مَّا عن نسبه، أو بعض شؤون أجداده؛ مُنِع الكتاب؛ ولوكان مؤلِّفه ممن جاوز القنطرة، تُعرض عليه الكتب لفحصها، ولا يعرض كتبَه على أحد؛ لفحصها واستجازة فسحها! لله العجب، مِنْ عالمٍ جَازَ عليه حُكمُ جاهِلٍ!
ماذا لو طُلِب من المعترضين تأليف كتاب يردون بعلم على من يخالفونه، ويخرج الكتابان، ويكوِّنان تاريخاً، وليس ثَمَّ ما يقدح في الدين، إن هو إلا علم وتاريخ، والتاريخ لا يُحْجَبْ، والمنع (هنا) حيلة العاجز، ورواج للناجز =«الكتاب».
6- رحلات الشيخ؛ خدمة عظيمة للمسلمين، وأظن أن غير المسلمين يستفيدون منها! لذا أتمنى أن تتولى رابطة العالم الإسلامي، أو وزارة الشؤون الإسلامية، أو غيرها، إعادة طبع هذه الرحلات في مجلدات، وتضيف في حواشيها تحديثاً لبعض المعلومات، وتوزعها على المراكز الإسلامية في العالم؛ فالحقيقة أن هذه الرحلات تعتبر فخراً لبلادنا أمام العالم أجمع، ولو كان معالي الشيخ في دولة أخرى؛ لكان له ولكتب رحلاته شأن آخر - والله المستعان -.
7- من ابتكار الشيخ، ترجمته لعدد من المشاهيرمن غير العلماء، في مؤلفات مفردة، للفائدة التاريخية وغيرها.
8- نظرة سريعة في قائمة مؤلفات الشيخ، أو زيارة لمكتبة الثلوثية في الرياض؛ يدرك الناظر الثراء العلمي والمعرفي في هذه المؤلفات البديعة.
9- آمل بمؤسسة علمية خيرية تحمل اسم معالي الشيخ العلامة: محمد بن ناصر العبودي - حفظه الله - ؛ وفاءً لجهوده الكبيرة في العالم الإسلامي، والأقليات المسلمة في غيره، وجهوده في اللغة العربية، وتراث منطقة القصيم : جغرافياً، وتاريخاً، ونسباً،ووثائق، وغيرها.
10- إنْ ذُكِر الشيخُ، ذُكر معه تلميذُه البارُّ به، الباذل من ماله وجهده في خدمة الشيخ وكتبه، وهو الأستاذ الفاضل صاحب الثلوثية، المحامي: محمد بن عبدالله المشوح - وفقه الله، وجزاه خيراً -.
11- كتبتُ رسالة للشيخ بعد ما تصفحت كتابَه«معجم أسر بريدة» أول صدوره، وقرأتُ وسمعتُ بعض ما قيل فيه، وكان ذلك بتاريخ (5-5-1431هـ)، قلتُ فيها ـ بعد تعديل، وإضافات يسيرة -:
إنه لمن دواعي الفرح - بلا فخر - أن نرى تاريخاً مطولاً لمنطقتنا، ينتظم في سلك كتب التاريخ النفيسة، بطريقة مبتكرة غريبة، وهي التاريخ على الأُسَر، مقرون بالوثائق والصُّوَر،جاء مُتخَطِّيَاً العقبةَ الكؤود في الكتابة في تاريخنا المحلي: «قلة المؤلفات، وتشتت الوثائق»، فألهمكم الله كتابتَه بعد كتاب«المعجم الجغرافي لمنطقة القصيم»، فسدَّدَكم ويسَّر لكم خروج أولى المعلمة الكبرى: «معجم أسر بريدة»في (23) مجلداً.
وغنيٌّ عن البيان أن الصفات المذكورة في المؤرخ - وأُراها في هذا الزمن عزيزةً - قد تمثَّلت في شخصكم الكريم؛ لعلمكم الشريف، ومشواركم الطويل المبارك في الرحلات وتدوينها،ومعرفة طريقة الوثائق المحلية ولغتها وكتابتها،مع لُقيِّكم عدداً من الرواة من كبار السنِّ، ومشافهتكم ومساءلتكم عدداً كثيراً من الأسر والمهتمين، ونقَلَةِ الأحاديث عن أصحابها، ومستعيناً بالوثائق - وهي أصدق وأضبط -، خاصةً أنه قد اجتمع عندكم مالم يجتمع لأحدٍ من المتأخرين والمعاصرين، من الوثائق المحلية،فلله الحمدُ والمِنَّةُ.
ومن الأوصاف المشهودة فيكم ما جاء في قول ابن خلدون - رحمه الله تعالى -:
[يحتاج صاحب هذا الفن إلى : العلم بقواعد السياسة، وطبائع الموجودات،و اختلاف الأمم، والبقاع والأعصار، في السِّيَر، والأخلاق، والعوائد، والنحل، والمذاهب، وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بَوْنِ ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدُّول، والملل، ومبادىء ظهورها، وأسباب حدوثها، ودواعي كونها، وأحوال القائمين بها، وأخبارهم؛ حتى يكون مستوعباً لأسباب كل خبره، وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحاً، وإلا زيَّفَه، واستغنى عنه.
وما استكبر القدماءُ علمَ التاريخ إلا لذلك، حتى انتحله الطبري، والبخاري، وابن إسحاق من قبلهما، وأمثالهم من علماء الأمة، وقد ذهل الكثير عن هذا السِرِّ فيه حتى صار انتحاله مجهلة، واستخف العوام ومن لا رسوخ له في المعارف مطالعته وحمله، والخوض فيه، والتطفل عليه، فاختلط المرعى بالهمل، واللباب بالقشر، والصادق بالكاذب، وإلى الله عاقبة الأمور]«مقدمة ابن خلدون» (1-45)
وقال أيضاً: [فهو مُحتَاجٌ إلى مآخذَ متعدِّدةٍ، وَ معارف مُتنوعةٍ، وحُسْنِ نظر، وتثبُّتٍ، يفضيان بصاحبهما إلى الحقِّ، وينكبان به عن المزلات والمغالط؛ لأنَّ الأخبارَ إذا اعتمدَ فيها على مجرَّد النقل، ولم تحكم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني،و لا قِيسَ الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب؛ فربَّما لم يُؤمَن فيها من العثُورِ ومَزِلَّةِ القدَم، والحيدِ عن جادَّةِ الصدق، وكثيراً ما وقع للمؤرخين، والمفسرين، وأئمة النقل، من المغالط في الحكايات والوقائع؛ لاعتمادهم فيها على مُجرَّدِ النقل غثَّاً أو سميناً، ولم يعرِضُوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة،والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار؛ فضَلُّوا عن الحق،وتاهوا في بيداء الوهم والغلط،ولاسيَّمَا في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات، إذْ هي مظنة الكذب،ومطيَّة الهذر، ولا بُدَّ من ردها إلى الأصول، وعرضها على القواعد].«مقدمة ابن خلدون» (1-18)
معالي الشيخ، رأيتُ في سيركم في الكتاب سلوكَ الجادة، ولو وُجِد هنا وهناك من ملحوظات، فإنهالاتؤثر في الحكم على الكتاب،خاصة مع جِدَتِه وابتكاره؛ وكأني أراكم تقولون شكراً وتفعلون حُسناً لمن أراد جذبكم لرأيه من دون بينة: إما وثيقة صادقة، أو يبقى بيانيا كما هو بدليله، والتاريخ وأهله يحكمون.
معالي الشيخ، سِرْ على بركة الله، ولا يغررك نقد من تجاهل ثمرة العلم بالتاريخ والتراجم،ومن يريد المدح ويستنكر الذم ؛خيانة للتاريخ والحقيقة، ومن يريد مالا يوجد حقيقة ؛تشبعاً بما لم يُعط، ورضا الناس غاية لاتدرك. ولو اجتمع لديكم من الناس ألفَ تعقيب وملحوظة، لم يكن ذلك كثيراً،لِحَجم الكتاب ووَصفهِ،وابتكارِ تأليفِه، ثم إنَّه لا يخلُو المَرءُ من وَدُودٍ يمدح،وحسودٍ يقدح،كفاكمُ الله شَرَّ كُلِّ ذِي شَرٍّ،وَأعانكم على جهالات دواؤها السكوت...
وقُصَارَى الأمرِ عند النَّاقم أنَّ جَدَّه كذا، أو كذا، وما علم أنَّ أفضل الخلق -صلى الله عليه وسلم- قال على الملأ:«إنَّ أبي وأباك في النار». - كما في «صحيح مسلم» -.
فالمعترض يريد بالحق المبالغ فيه، أو الباطل أن يقول: كان أبي وكان.وماذا لو كانت الحقيقة:لم يكن أبي، وسأسعى لأكون.
قال أبو العباس الناشئ:
من تحلّى بغير ما هو فيه
عاب ما في يديه ما يدَّعيه.
وإذا قلل الدعاوى لما فيه
أضافوا إليه ما ليس فيه.
وبحسب الذي ادّعى ما
عداه أنه عالم بما يعتريه.
ومحل الفتى سيظهر في الناس
وإن كان دائباً يخفيه.
[ «العقد» لابن عبدربه (2-86)، «جامع بيان العلم» لابن عبدالبر (1-576)]
وقال محمد بن أبي يعلى أبو إِسماعيل السراجي:
إن اللئيم إذا ما فاته شرف
في نفسه ظل للآباء مداحاً.
حصِّل لنفسك ما تهواه من خُلُقٍ
ولا تكن بالذي أوتوه مرتاحاً
لا يعبر المرء نهراً شط شاطئه
بأن يكون أبوه قبل ملَّاحاً
[«التدوين في أخبار قزوين» (2-55)، « إرشاد الغاوي» للسخاوي (ص60)، وانظر في المعنى فصلاً رائعاً في « روضة العقلاء» لابن حبان (ص228)]
معالي الشيخ - سددكم الله - إنَّ من أهل العلم من استغرب وجود بعض العبارات الجارحة، في أشخاص ليس لهم أثرة من علم، أو عمل بارز في سياسة أو غيرها، فالكلمة في نظرهم تعتبر خارجة عن المشروع؛ لأنها لا تخدم العلم،والتاريخ،ولا يتوقف العلم عليها؛ فمن الممكن أن يستعاض عنها بعبارة لطيفة، كالعبارة المعهودة عند السلف، في قولهم:(ممن لاتُحمَد طريقته) وما شابه هذه العبارة اللطيفة التي تُبيِّن أن خلف الكلمةِ كلمةً أخرى...
وإن كنتُ قد وجدتُ جرحاً في بعض كتب التاريخ، في أشخاص قد يعتبر بعضهم من عامة الناس،كما في «إنباء الغمر بأبناء العمر» لابن حجر العسقلاني، حيث قال في (3-122): كان ذميم الشكل جداً. (3-116): رث الهيئة خاملاً. (3-209) ملازماً للخلاعة.(3-182): كثرة التهتك.(3-17) سفساف. (3-18): جيد الضرب بالعود.
وفي كتاب«تاريخ الدول والملوك»لابن الفرات الحنفي (9-41):رئيس المغنين في وقته.(9-43): رئيس المشببين في زمانه.(9-239): ذو أخلاق شرسة.(9-239):كان حاداً عند التغيظ يبساً في المعاملات.
وفي «درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان الفريدة» للمقريزي (1-410) : كان قد بدن،وتزايد سمنه إلى الغاية،حتى صار إذا أراد أن ينهض قائماً يعتمد على يديه ويرفع عجيزته عن الأرض،وعجيزته مرتفعة.وفي (1-368): ومات مقلاً مملقاً. وفي (1-415) : توفي بعدما اختلط وأتلف ماله،وساء حاله.وفي (1 -414): وقد اجتمعت به،فلمْ أرَ فيه ما يقتضي الذم ولا المدح،سوى أنه يمد يده لمن يأتيه يُقبِّلُها،وظهر لي منه أنه حريص على الرئاسة غفر الله له.وفي (3-138) بعد أن أثنى عليه في العلم : كثير التهكم والازدراء بالناس،مع وسخ الثياب ورثاثة الهيئة، ويُتَّهَم بالمال الكثير.
تنبيه:استفدت هذه الأمثلة من كتاب «دراسات نقدية في المصادر التار يخية» د.محمد كمال الدين علي.انتهى المراد نقله من الرسالة - بتصرف -.
اقتراح:أختم باقتراح لمعالي الشيخ - رعاه الله -، وقد ذكرتُه له شفاهاً فاعتذر، وبإظهاره هنا استقواء بمن يرى أهمية المقترح وأهلية الشيخ له، وهو: أن يكتب خلاصة تجربته في الرحلات؛ لأنه عميد الرحالين، وأن يضمنها طبائع الشعوب؛ فالحديث حولها غاية في الندرة، وهي مفيدة لمن يريد الدعوة إلى الله، وحسن التعامل.
وجهة نظر: لا تغتر بالكتب التي استخرجت فوائد الرحلات، لأنها قليلة جداً بالنسبة لكتب رحلات الشيخ، وقد تضعف همة الراغب.
بارك الله في معالي الشيخ، وأمدَّ في عمره على طاعته، وجزاه خير الجزاء على ما قدم للإسلام والمسلمين.