عادة ما نلمز وننتقص من القراءة الانطباعية ونعدها في الغالب قراءة ناقصة ومسيئة وغير علمية؛ لأنها قامت على آراء تذوقية وملحوظات لا تستند إلى قاعدة علمية أو نظرية من النظريات. ولا يغرب عنا أن هذه القراءة هي القراءة الغالبة هنا في النظر إلى النص الأدبي عامة وإلى النص الروائي خصوصاً، ومعظم هذه القراءات الانطباعية تقوم في النص الروائي على ناحيتين: الناحية الأولى وهي الأكثر تتمثل في التماهي الانفعالي مع المقروء، والحقيقة أن أي محاولة لإبعاد هذا التماهي مصيره الإخفاق كما يشير إلى ذلك فانسون جوف، وقد لاحظ ذلك كل من جاك لينهارت وبيير جوزسا في سيسولوجيا التلقي بعد تحليلهما لروايتي (الأشياء) لجورج بيرك و(مقبرة الصدأ) لأندري فيجيس..
والناحية الأخرى تقوم على استعراض هزيل ديكوري أشبه بالاستعراضات العسكرية في البلاد الدكتاتورية لقدرات القارئ وهو هنا يمارس عملية دجل قرائي مقصودة، وهذه القراءة تكون في الأغلب خاضعة لإيديولوجيا ما أو مجرد فزاعة مضحكة
ومع ذلك فتغدو كل قراءة قراءة مشروعة؛ لأنها ستخضع لقراءة أخرى وهكذا في سلسلة لا تنتهي.. بيد أن التفلت والضعف الذي تفرضه القراءة الانطباعية التي يمكن أن تكون وصفا يصح إطلاقه أحياناً على كل القراءات غير المحايثة بما فيها بعض قراءات التلقي والقراءات السيمولوجية والقراءات التفكيكية عند دريدا مع ملاحظة أن الفارق الكبير يتمثل في فقدان القراءة الانطباعية الأساس الفلسفي والأساس النظري، يجعل القراءة المحايثة تبرز كقراءة صارمة لا تتيح أي مجال لأدنى انطباع ولأدنى عاطفة... ولكن بسيرورة التطورات النقدية تعد القراءة المحايثة قراءة متجاوزة نسبيا وتتبلور أهم منجزاتها في أعمال الشكلانيين الروس، وخصوصا فلاديمير بورب في دراسته للحكاية الشعبية الروسية، ثم تمثلت أكثر في البنيوية وقواعدها الصارمة التي تقوم على العلامة والوظيفة والاختلاف داخل النص بغض النظر عن مؤلفه، وعلى ذلك فإن عصر التلقي الذي جاء بعد ذلك يمثل نقله من أفق المحايثة إلى أفق آخر خارج النص هو أفق القارئ نفسه.
وإذا كانت القراءة باعتبارها تجربة جمالية بحسب ياوس هي تهدف إلى تحرير شيء ما أو تهدف إلى الحوار مع فراغات النص وثغراته ومطاردة جميلة لشوارده وحفر لاستخراج كنوزه المدفونة من خلال فك شفرة النص، فإن فك الشفرة يستلزم حداً أدنى من العمل على قواعد النص ذاته لسبر أغواره واكتشاف خريطته الجينية، وهنا لابد من أساس محايث (حيثيم) ينطلق منه القارئ.
ونعود مرة أخرى لنتأكد من السيلان المفهومي لمشروعية القراءة. فهل من حدود للمشروعية؟
يقول فانسون جوف: إن النص بكل تأكيد يسمح بقراءات عديدة، ولكنه لا يسمح بأية قراءة كيفما اتفق، وكما تلاحظ كاترين كربرات – أوريشوني أن القراءة ليس معناها إرخاء العنان لنزوات الرغبة وللهذيان التأويلي لأنه إذا استطعنا أن نقرأ أي شيء في أي نص فكل النصوص ستصبح سواء.
وحسب رولان بارت إذا أرادت القراءة أن تكون مشروعة يجب أن يتوفر فيها معيار الانسجام الداخلي «فلا تتعلق موضوعية الناقد كلها باختيار نوعية الشفرة، ولكن بالصرامة التي يطبق بها النموذج المختار على النص».
وعلى ذلك فإن محايثة النص أمر لازب مهما هربنا من ذلك إلى تلقيه، ولكن المحايثة البنيوية الصارمة كما لاحظنا ولا حظ غيرنا ستدفع بالنص الروائي وغير الروائي إلى أتون التعميم والتجريد وبذلك تفقد النصوص تميزها، وبعبارة أخرى يمكن أن يكون نص هزيل ونص عظيم في مستوى تعميمي وتجريدي واحد...
وبهذا فإن ما يشير إليه بارت في نظري أن قراءة أي نص لابد أن يتوافر فيها أحد أمرين انسجام داخلي لفعل القراءة، ومنهج قرائي صارم، هو المنطلق في أية قراءة، وبغير هذين الأمرين تفقد القراءة قيمتها، وعلى ذلك تستحيل أي قراءة دون (حيثيمٍ) ما.
وفي نظري ومن تجربة متابعتي للقراءة النقدية للرواية المحلية واطلاعي على بعض أعمال الندوات التي خصصت للرواية المحلية أجد المشهد النقدي في الغالب يطغى عليه فعل تحريضي يتولى كبره بعض الروائيين ضد النقاد يطالبهم بقراءة الرواية المحلية بصورة أكثر جدية وأكثر إنتاجية مواكبة للتدفق الروائي الضخم، ووصل الأمر إلى مهاجمة كل نقد أكاديمي دون توضيح ما المقصود بالنقد الأكاديمي والدعوة إلى الاكتفاء بقراءة الروائيين أنفسهم بأنفسهم ولا أدري أيضاً كيف يقرأون أنفسهم بأنفسهم انطباعيا أو مجاملة أو بأية أدوات قرائية يملكونها تتم هذه القراءة، هذا السخط قابله الناقد المعروف الدكتور حسن النعمي باستغراب موضحاً أن متابعة الإصدارات الروائية ليست من مهمة الناقد بل هي مهمة صحفية أو ترويجية أما القراءة النقدية فتحتاج وقتاً وجهداً متأنياً، وهو محق في ذلك، ولكن الأزمة القرائية في نظري تظهر في أن الفقاع ة الروائية المحلية لم تنفجر بعد وأنها تحوي كثيراً من الغث والقليل القليل من الجيد والأقل من المتميز.
فلقد أهداني أحد الشعراء أكثر من رواية وحينما سألته لماذا انتقلت من الشعر إلى الرواية أجاب بكل برود، وجدت نفسي أستطيع أن أكتب أحسن من غيري فكتبت الرواية أما ظاهرة الصحفي الروائي فهي أكثر الظواهر لفتاً للنظر... والحقيقة أنني اخترت في معرض سابق ثلاث روايات محلية لكتاب من الرياض ومن مكة ومن الباحة فوجدت أكثرها تدنياً من الناحية الفنية قد فازت بعد ذلك بإحدى الجوائز المحلية!
ولذا فمن زمن ليس بالقصير اهتم بوضع مقياس صارم هو مقياس (يستحق القراءة) أو (لا يستحق القراءة) واعتمد في ذلك على تطبيق الحد الأدنى من المعايير الجنسية للنص مع اعتبار كل النظريات النوعية، والمشكلة مثلاً في أغلب الروايات المحلية أن قراءتها تخلق نوعا من العذاب وليس نوعاً من المتعة .. عذاب بالغثاثة وعذاب بالاستعجال على الكمال وعذاب بالاستعجال على الشهرة وهذه قد يكون أمر التخلص من قراءتها هينا، ولكن نوعاً آخر من النصوص الروائية يتوفر على كل الشروط الجنسية للرواية بيد أنه يفتقد للروح المحايثة في النص، وهل هنالك روح محايثة في النص نعم وأظنها ما يبحث عنه أي قارئ عادي وهذه الروح تظهر في كل أجزاء العمل بدءا بالعنوان وانتهاء بالكلمة الأخيرة إنه المستوى المحايث في مقابل المستوى الظاهر فكما يؤكد كريماس على وجود مستوى محايث يشكل جذعا مشتركا مبنيناً حيث توجد العلمية السردية متموقعة فيه ومنظمة بشكل سابق عن تجليها نؤكد على هذا المستوى وأياً كانت المقاربة النظرية هي في الحقيقة تستهدف هذا المستوى تستهدف مستوى نواة النظام السردي وأصغر وحداته ( السرديم ) ونواة النظام الوصفي وأصغر وحداته (الوصفيم)، ونواة النظام الحوار وأصغر وحداته ( الحواريم )، وذلك ما يجعلنا نقبض قبضة من أثر الرواية فنخلق بها اهتزازت النشوة، ومهما حاول الكتاب الذي بدأت تنضج بعض أدواتهم الروائية من استعمال الحيل الكتابية دون الروح المحايثة التي تنبني على تمثيل الرواية الصادق لخطابات الهم الإنساني وكيف يقاوم الأدب البشاعة فلن ينجح لهم مسعى وستخيب كلماتهم وتموت شخصياتهم قبل أن تولد ولن يصنعوا إلا روايات نصف مخبوزة.