«وقوفاً بها صحبي»
كل نص يستوفي شروط نوعه، يستحق دائماً من قارئه المهتم أن يقاربه، محبةً أو نقداً أو نقضا.
و رواية «رقص» للدكتور معجب الزهراني، أحد تلك النصوص التي تنطوي على كمائن ثرية، تغري قارئها بالوقوقف عليها وقفة امرئ القيس مع صحبه – تأملاً وكتابة – للحوار معها، أو للحديث عنها بالعميق من صبوات الأسى، ولكن بالكثير من التجمّل، حيث يمضي ساردها منذ البدء في كتابة هجائية معاصرة للواقع المعاش مثلما يدون رثائيته الوجدانية عن انهيار جماليات حفلت بها حياة طفولته و صباه.
يقول في الصفحات الأولى وهو يودع الرياض مهاجراً : « وأنا في الطريق إلى المطار غنيت بصوت رفيع « يبكي ويضحك»..
قلت أتسلى وأنسى.. وقد أبدو مواطناً صالحاً مرحاً محباً لهذه الأرض ومن عليها.
تعبت . لم أعد أتحمّل.
قرأت آلاف الكتب وليتني لم أفعل. لم أعد أفهم شيئا مما أرى وأسمع.
كتبت نصف عمري لأنمي أشجار المحبة ويا لوفرة الحصاد!
تنادى غُلاظ العقول والأكباد ليزرعوا الشوك في طريقي والحنظل في حلقي.
لا بأس.
***
نعم يا وجوه الخير. كان لا بد من السفر ولو على ظهر جملٍ أجرب. ولهذا السبب أخذت كل الاحتياطات اللازمة « (ص 11)
هذا السفر أو «الفرار» من الجحيم، لا يبقى فضاءً لارتياد مرابع الحرية في مدينة النور وحسب، وإنما يتم تحويله في هذا النص إلى عملية استبصار لنماذج المقارنة بيننا وبين الآخرين، و مساحة لرؤية واقعنا من بعيد، وتفكيك مكوناتنا الثقافية والاجتماعية حاضراً و ماضياً. وهنا يستعيد الروائي / السارد مخيال «الأم « الراحلة، بدءاً من صورتها على الغلاف الخلفي وذهاباً إلى استعادة مخيالها في اشباهها في تشكيلة حياة اجتماعية بسيطة وعفوية وسويّة على سفوح جبال الجنوب، قضى عليها التغير الزمني
والتغيير القسري ( بمركباته الاجتماعية والسياسية والعقدية).
وبالطبع، فإن نبرة الأسى على فقد مكونات حياة اجتماعية تتمتع بالعفوية والحرية الطبيعية ليس جديداً انهمت به هذه الرواية، لأن الكثير من الأعمال السردية المحلية حفلت بذلك، ومنها أعمال عبدالعزيز مشري، و محمد علوان، وأحمد أبو دهمان، ويحي أمقاسم، واحمد الدويحي، و علي الشدوي، وسواهم، ولكن الروائي هنا يشتغل على بناء وتسيير وتطوير هذه «التيمة» بخبرة معرفية وبدربة فنية متميزة، أنشأها بحرية كاملة في محاضن الحرية الطبيعية في فرنسا، بما يجعلنا عاجزين عن مجاراته فيها، هنا!!
إن ذلك الأسى الذي خلّده امرؤ القيس في لاميته، ليس فقط ما يستوقفنا في هذه الرواية، ولكنه باب ندلف منه صوب مقتربات ثقافية وجمالية وسردية أخرى تجلت في هذا العمل، حيث لا يبقى الأسى وحده، مهيمناً على دلالات النص، وإنما يفتح شبابيكه على الحنين إلى عتبات المستقبل، وهو ما نلحظه فيما يتبدّى من حوار (البطل والسارد)، و في تفاصيل سيرتهما المشتركة، التي تؤكد على احتفاظ المثقف برؤيته النقدية للواقع، رغم كل الخسائر والعقبات!
و قد عمد الروائي إلى تشكيل هيكلية نصه، باستثماره لمواد مختلفة، نتأملها في اندماج السيري الذاتي بالحكائي وبالمتخيل السردي، و عبر حضور شعرية «الملحمي» المرتبطة بالقلب – بحسب هيجل - من خلال افتتان الروائي بكتابة سيرة حياة القرى القديمة التي تعرضت للوأد، و في تدوين سيرة بطل الرواية «سعيد»، كأنموذج إشكالي، في النص وفي الواقع، وكذلك بالاشتغال المتواصل على فاعلية « التسمية» «رقص» في ثنايا الرواية.
وإذاكنا سنلحظ خفوت نبرة «الحوارية « - باعتبارها أعمق تجسيدا لنسبية الحقيقة، و للحق في الاختلاف والمغايرة - في البنية الداخلية للنص (في حواربطلي النص سعيد و السارد)، إلا أن الروائي قد عمل على إبرازها ك « حوارية خارجية» حين يأتي الاشتغال على نقد وتفكيك ما يشكّل مرجعيات النص الواقعية، و المتمثلة في التراكمات التراثية والثقافية والاجتماعية والسياسية المهيمنة، في واقعنا المحلي في المملكة.
التسمية
رغم مركزية « العنوان « المولّد للدلالات، في واجهة معمار أي كتابة، إلا أن السارد والشاعر – غالباً – لا ينطلقان في كتابة النص بعد أن يكونا قد حددا اختيار عنوانه، وإنما يقومان باختياره لاحقاً، بعد أن تتبيّن الملامح والهياكل الرئيسة لهذا المولود الجديد، أو ربما بعد ولادته بدون تسمية.
أما رواية «رقص» فستبدو لنا وقد استصحبت تسميتها معها منذ البدء، حيث تغدو تيمة «رقص» أحد فواعل حركية الرواية وتشكيلها ومآلات استقبالها و تأويلها. وهنا لم تعد عتباتها( العنوان، لوحة الغلاف، كلمة المؤلف على الغلاف الخلفي، والجمل الافتتاحية..الخ) نصاً موازياً، وإنما جزءاً مدمجاً في النص الأساسي وسردياته الطقوسية والواقعية والتأملية.
لكأن الراوي بهذا الصنيع، لا يريدنا أن نجهد أنفسنا بالبحث عن تعالقات العنوان بالنص، دلالياً ولغوياً، وإنما يدعونا إلى قراءة هذه السردية للرقص، كما هي، بكل ما تتضمنه من مظاهر الاحتفاء بالجمال والجسد وحرية الفكر من جانب، وبكل ما عبّرت عنه هجائياتها للقبح ودلالاته، من الجانب الآخر.
على الصفحة الأولى يختار الروائي هذا المثل الأفريقي: « من يتكلم سيغنّي... و من يمشي لا بد أن يرقص». وفي (ص 44 ) يوجه كلامه لزوجته في باريس، حين قرر الذهاب إلى مدينة ساحلية صغيرة في جنوب فرنسا عبرت منها جحافل الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الثانية، بعد أن دمرتها، ما يلي : « سأكتب عن رقص البشر على الأرض، عن رقصةٍ فتنتني منذ أن سمعتها خبراً عابراً في حكاية قديمة بدت لي هي المهمة حينها. بعد فترة أدركت أن تلك الرقصة هي قلب الحكاية الذي يولّد النبض في العروق، وينظم الإيقاع في الجسد. بفضلها تعلّقت بالأحداث قبلها وبعدها وحفظت مجمل تفاصيلها». وهنا يأخذ الرقص موقعه المركزي في بنية الرواية حين جعل الكاتب عنوان نصه « رقص» نكرة متحررةً من : الـ «تعريف، التي كانت ستجعل منه فضاءً محدوداً بتلك الرقصة، وليفيض بذلك عن حدودها ليغطي تجليات الحياة كلها.
الرقص
تعود جذور الرقص إلى حكاية اسطورية يرويها علي الشدوي عن «جادامير»، تذهب إلى لحظة احتفال الأب بقتل أبنائه لينال نساءهم الجميلات، واحتفال الأبناء بقتل أبيهم لنفس السبب.
و إذ يغدو الرقص، بعد ذلك، احتفالية وطقساً تمارسه التجمعات البشرية في كل مكان، فإنه يأخذ شكل «اللعب» في متعة الانفعال بالحالة، ويكسب صفة المرونة و التحول حيث يرقص الإنسان في كل مرة رقصة جديدة لا يتذكر معها سابقتها ولا يقلدها، حتى يصبح «الرقص» «بنية» مكتفية بذاتها تمتلك عناصر الديمومة والتجدّد معاً، والقدرة على ابتكار دلالاتها المختلفة في كل حالة تتلبّس الإنسان، بانخطافه معها، وحياته فيها بمعزل عن المناسبة والحضور البشري والحادثة أو الزمان والمكان.( علي الشدوي – الرقصة الجنوبية – مخطوطة- 2014م)
و قد تبدّى البعد الأسطوري للرقص في هذه الرواية في ليلة فرح العريس/ السارد، حيث راودته التراجيديا الاسطورية في حمل المسدس لا لإطلاق الرصاص ابتهاجاً بهذا اليوم، وإنما لتوجيهه إلى أهل العروس الذين وقف بعضهم ضد زواجه من تلك الفتاة، التي يعرف كل أهالي القرية بأنهما كانا يعشقان بعضهما منذ الطفولة.
كما أطلت اسطورة « أوديب « هنا، عبر نظرات العريس إلى «الأم» وهي ترقص احتفاءً بليلة تزويجه من تلك المحبوبة، حتى تدحرجت الأم من أعالي الدرج الحجري العالي إلى الأرض.
أما حين يقودنا الرقص لتجاوز ابعاده الاسطورية صوب آفاقه الواقعية في الرواية، فإننا سنرى تشكيلات متعددة لمعنى الرقص ودلالاته عبر ملحمة سيرة البطل الرئيس «سعيد»، فنشاركه أولاً فرحة الخروج من السجن، بعد سبع سنوات عجاف قضاها فيه،على خلفية نشاطه السياسي الراديكالي، فيرقص في احتفال القرى بعودته،كما لم يرقص من قبل ولا من بعد.
« لم تكن تلك مجرد رقصة عرضة... كانت تظاهرة فرح ومناورة وطقس غضب.. رقصة حب وحرب»( الرواية – ص 48)
كما نقف معه على دلالة «الرقص مذبوحاً من الألم» خلال مرحلة التعذيب في السجن، ثم رقصه كمحزون فقد صندوقاً صغيراً، كان يخبئ فيه رسائل حبيبته الفرنسية «ناتالي» وصورها قبيل السجن، ولما خرج منه لم يجد ذلك الكنز. وفي ذلك نرى دلالة فنية تشير إلى معنى فقد الأمل في العمل السياسي، ومعنى فقد الحبيبة بشكل مطلق!
ثم يأخذ «الرقص» في حياة البطل - بعد ذلك - صفاتٍ أخرى مغايرة، منها رقصه في محبة الحياة، وأسفاره الكثيرة هرباً من زمهرير الصحراء (الثقافي والاجتماعي)، وبحثاً عن شيء مفقود ٍيبحث عنه ولا يجده أو لا يهتدي إليه!
وقد تبدت كلمة «رقص» في حالات تكاد تشتمل على كل مفاصل الرواية، فالرقص خلاص للجسد من قيوده، وتطهّر من أثقال الواقع، وتشوّف بهيج للحرية، وللإبداع والجمال والكتابة والخلود. ولنطل هنا على القليل من ذلك الكثير الفاتن، في قول السارد:
*ـ « حين ترقص المرأة براحة وحرية، تنفض عن جسدها تعب حياة وعن روحها ضيم قرون. إنها ترقص لحياة لم تعشها بعد، وتراقص أحلاماً تعيشها كل لحظة. تهب حسدها للريح، وتستعير الأرواح الخفيفة لكل فراشات العالم وطيوره. نعم لاترقص المرأة عبثاً. إنها تكشف السرّ الخفيّ الذي يسري فينا ويحثنا على محبة الحياة من جديد» ( ص 137).
*ـ « لو عرف الناس قيمة الرقص لمحوا فيه كل تعب وتداووا به من كل حزن» ( 49).
*ـ « كلنا في ورطة، والمحظوظ من يبحث عن خلاصه في رقصة أو قصيدة أو لوحة» (ص165).
وكذلك ما أورده على لسان بطل النص «سعيد» عن مدينة «رويان» الفرنسية التي دمرتها الحرب العالمية: « هذه المدينة الجريحة بعد الحرب لا بد من علاجها بالفن الأول والأهم، وهو الرقص، لتستعيد شفاءها وعافيتها». ولعل تجربة «سعيد»، في هذا العمل، تغدو معادلاً موضوعياً مقارناً بين ما حل به من تدمير ذاتي في السجن، وبين ذلك التدمير الذي حاق بتلك المدينة الجميلة في جنوب فرنسا!
لذا فإن «رقص» تنفتح لتشمل ما يمكن اختزاله في القول بأنها تشكّلات لدلالات على: رقص الحرية... رقص الجسد وعنف أحلامه.. رقص الأمل، ورقص الألم.. رقص السعادة بالحصول على المعرفة والابتهاج بما تفتحه للعقل من امكانات التحليل والتعليل والتفكيك، وما تمنحه له من صلابة لليقين المعرفي الحي.. الذي يكمن في الإمكانات التوالدية للمعرفة من أجل إعانتنا على فهم الحياة ومستجداتها، ونقضاً لكل التعاقبات اليقينية التي تكبّل الحياة بأقانيمها البالية.