عاشت الشعوب القديمة في وهج حارق لم تستطع طيلة تاريخها الفكاك منه، يتمثّل في التعرض لإملاءات الميتافيزيقا المتعددة، وما رافقها من صناعة الأساطير المتخيلة في قوانين الكون ومستقبل الحياة، ومصادر القوى المتحكمة في كل شيء، حيث أصبح الشيء ونقيضه يمكن أن يصدّق الناس حدوثهما، مع تبريرات مختلفة لكل حالة، وتصورات خاصة للمكونات التي تتعارض قوانينها الفيزيائية بوجود العناصر نفسها.
تمادت الشعوب، التي تعيش تحت وطأة الظلم والظروف الصعبة، في ابتكار وسائل تنفيسية من مسارات الميتافيزيقا الواسعة الخيال؛ فجعلت الحيوانات الضخمة تطير، والطيور تغوص في البحار والمحيطات، وعدد من الكائنات الحية أو غير الحية تكون قادرة على الكلام، بل إن أشكالها أيضاً تعددت، فظهرت كائنات أسطورية برؤوس متعددة، وأيدٍ وأرجل كثيرة أيضاً؛ ولدى بعضها القدرة على إخراج النيران من أفواهها، أو حمل مدن كاملة على أيديها، إلى غير ذلك من الأفكار، التي تشكّل جسراً إلى حالة الواقع غير المرتبطة بما يسبقه من أحوال، من أجل أن يفهموا أوضاعهم، أو يتقبلوا واقعهم والتعليمات المملاة عليهم.
ومنذ أن أصدر الفيلسوف الألماني إمانويل كانط كتابه في «نقد العقل الخالص» عام 1781م، تغيرت النظرة لدى النخب الأكاديمية تجاه سيطرة الميتافيزيقا على عقول الناس.. فبعد أن كانت هي المهيمنة على كثير من مسارات الحقول العلمية، أصبحت مدار استبعاد وإنكار لدى الملتزمين بمبادئ العلم الحديث وفروضه.. ثم انتقلت هذه التصورات الواقعية شيئاً فشيئاً إلى العامة، الذين كان يصعب عليهم التخلص من التفكير الميتافيزيقي قبل انتشار مثل هذه الكتابات، وتأطيرها للفكر الجمعي، بدءاً من القرن الثامن عشر الميلادي، إلى أن أصبح مجال جذب للفكر الحر من ذلك الابتزاز.. وهي الحقبة التي تقلص فيها هامش السحر والشعوذة، لصالح العلم والمنطق.
وبالمثل تحكمت اليوتوبيا في عقول البشر لفترات طويلة؛ بدءاً من خضوع آلاف البشر لمستبدين في عمل السخرة، سواء كان ذلك في الهند أو مصر أو الرافدين وملوك الأمم القديمة، أو ضمن جيوش ليس لها وظيفة وطنية، ولا تحقق إلا بعض نزوات أولئك القادة العسكريين، دون أهداف واضحة يسعون إليها، أو حتى حماية في حدها الأدنى لأولئك البسطاء، الذين يهلكون وقوداً لتلك الحروب العبثية.
وعندما صنعت بعض الأنظمة السياسية المرتكزة على نظريات اجتماعية عقيدة الحياة في العصر الحديث، ومنها على سبيل المثال: الأنظمة الشيوعية، التي صوّرت أفكار التحول نحو اقتصاد الزراعة الشيوعية، والقرى الصناعية القائمة على مجمعات العمال، في حين يتركون عائلاتهم لتربيهم كوادر الحزب الشيوعي، على أنها إنقاذ للبشرية من براثن الرأسمالية القاتلة.. لكن كوارث هذه الأنظمة قد أظهرت أن تلك الطرق في الحياة غير مجدية على الإطلاق.
أما المثال الثاني، فتمثّله الحركات الإسلامية الجهادية في القرن الحادي والعشرين؛ حيث صوّرت نظرياتها في الجهاد، وإنشاء الكيانات التي يعرف كل عاقل أنها من اليوتوبيا، بوصفها خلاصاً للأمة الإسلامية، بل والبشرية جمعاء في بعض أحلامهم.. فرأينا خطبهم وكتاباتهم وأقوالهم تدور في فلك كره الكيانات الأخرى، وتغيير واقع البشر على الأرض من خلال القوة، التي ستأتي معها النصرة بعد إخلاص النية.. وبعد المحاولات العسكرية الانتحارية البائسة، خرج لنا مؤخراً من عباءتهم، ما أطلقوا عليه «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، ثم اختصروه إلى «الدولة الإسلامية»، التي أعلنوا لها خليفة، وطلبوا انضمام المسلمين في كل بقاع الدنيا إليها.. وبالطبع انضم إليها كل من وجد نفسه ملفوظاً في مجتمعه، سواء كان من مجتمعات المسلمين أو غيرها.. لكن الطريف أن عدداً من غير المقتنعين بفكرها يفسرون ظهورها بالمؤامرة!