يبدو السؤال السابق كجدلية رمادية يمتزج غموضها بوضوحها فيقسم المُدرَك إلى ثنائيات، ولعل السبب لنشأة تلك الجدلية تعدد مصادر الاستحقاقات الصانعة للوعي وتصدر بعضها مركز الأولوية والأولية ودفع بعضها للصفوف المتأخرة من التأثر والتأثير، وغالبا ما تكون الثقافة من الاستحقاقات المدفوعة للتراجع من صدارة الاستحقاقات الداعمة لصناعة الوعي المجتمعي لعدة أسباب أهمها ثلاثة أسباب هي:
السبب الأول؛ غموض مفهوم الثقافة وأهدافها بالنسبة لمُنتج الوعي و ممثله، وهذا الغموض مقارن بالنسبة لبقية الاستحقاقات الصانعة لوعي العقل الاجتماعي ؛أي الدين والعرف والثقافة وكلما مال مصدر صناعة الوعي إلى التعريف الموجز المحدد الثابت واتصف بالبساطة والوضوح والقابلية والمألوفية السندية والأحادية والجازمية اكتسب ظهيرا فاعلا سواء عن طريق الخبرة أو التجربة أو التبادل والتواتر النسقيين لتأثيره على المتلقي والتحكم في صناعة وعيه.
أما بالنسبة للثقافة فالأمر يختلف فهي تميل إلى تعاريف مختلفة تستمد تلك التعددية من كثرة قنواتها التنفيذية وتنوع فواعلها، وذلكم غالبا ما قد يتعارض مع ميل الوعي في قواعده التكوينية.
يميل الوعي إلى أن كل أحادي «ثابت» وكل «متعدد « متغيير وهو ميل لايخلو من نسبة مرتفعة من الصحة وسلامة أولية المبدأ، لأن التغيير لا يصنع وعيا يمثل تصديقا واقعيا ؛إنما يُشكل اتجاها، ولا أقصد في هذا المقام بالتغيير «فاعلية التغير» فهما مختلفان سواء على مستوى المُصدِر أو التأثير أو الحاصل وقيمته، والقيمة عادة ما تحدد من خلال ما يملكه الحاصل من «القدرة على الإثبات والثبات».
وبذلك فلا يُعاب على شرطية الثبات بالأحادية والتصديق، وحسب طبيعة الثقافة الطاردة للنمذجة فهي تتعارض مع شرطية الثبات بالأحادية والتصديق، مما يجعلها في وعي الذهنية الشعبية مرادفا «للكذب والتلفيق» وهما صفتان تنزعان عن الرسالة الثقافية «نزاهتها وشرفها»، وهو انتزاع يدخل الثقافة دوما في دائرة إتهام لا تنتهي كما أنه انتزاع يبعد تلك الرسالة الثقافية عن دورها التأثيري في تكوين وعي العقل الجمعي.
إضافة إلى مسألة أظنها مهمة وهي «عدم احتياج العقل الاجتماعي» إلى «الثقافة» وعدم الاحتياج ذلك هو ناتج تعدد وظائف مصدر الاستحقاق الواحد.
في المجتمعات الدينية، يقوم «الدين بتأسيس الثقافة وإدارتها» بما يعني أن أي «ثقافة» مؤسسة على «منهج علماني» ستقابل بدفع بالإحلال، وهذا الدفع بالإحلال يُفقد الثقافة وظيفتها في تشكيل وعي العقل الاجتماعي، وحتى تستطيع الثقافة من اكتساب وظيفتها الاجتماعية واستحقاقها في تشكيل وعي العقل الاجتماعي لابد أن تًصبح جزءا من «الدين الاجتماعي» أو «العرف الاجتماعي» لتحظى بمجاورة اندماجية تكفل لها تحقق فاعليتها الوظيفية.
وتحول الثقافة إلى جزء من الكل الديني أو العرفي للعقل الاجتماعي أمر ليس مستحيلا لكن تعتريه بعض الصعوبات تنطلق جلها من عدم قدرة الثقافة على «النمذجة» أو «تمثيل النمذجة» ودعمها ؛لأن وظيفة الثقافة هي كيف تعلّم الإنسان على الاستقلالية و»حرية التفكير والاختيار» لا كيف تَرسخ قيود التبعية.
أما السبب الثاني الذي يبعد الثقافة عن دائرة التأثير في تشكيل وعي العقل الاجتماعي فهو غياب القصدية عن الخطاب الثقافي ؛ وذلك الغياب يقرب الثقافة من «صناعة التسلية» أكثر مما يقربها إلى «صناعة الوعي الحضاري».
يرى البعض أن الثقافة يمكن جدولتها إلى صفين ؛ الثقافة المبنية على «خطاب أيديولوجي» والثقافة المبنية على «خطاب نهضوي».
لكن عبر أيهما يمكن أن يحقق للخطاب الثقافي عقيدة القصدية؟.
و المراد «بالقصدية» هنا «البعد الأيديولوجي الذي يحيط بالمصطلح» سواء أكانت تلك الإحاطة مرجعية أو روحية أو معنوية «فثمة إحاطة بعيدة المدى أو قريبة المدى تسيطر أيديولوجيا على أي مصطلح».
وهو أمر لا نحسبه تجاوزا للمسار الطبيعي نظرا لوجود «قابلية الإيمان» و»الرفض والقبول» فالرفض والقبول بعدان أيديولوجيان لأنهما مبنيان على عقيدة مثبتة بالتصديق أو الإنكار، أي الدرجة الأولى المُشكِّلة للوعي الأوليّ السائد التي ذكرتها مطلع هذا الموضوع»شرطية الثبات بالأحادية والتصديق» مما يُدخل تلك الشرطية إلى منظومة «قواعد الحفز» القاعدة الحافزة لتحقيق كفاية الرضا عن الاقتناع الخاص المؤيد لتلك الشرطية.
وهي قاعدة أظنها متلازمة بالطبيعة الإنسانية لكن قوتها أو ضعفها أو خضوعها للاحتيال والمزايدة والاستغلال تتفاوت درجاتها حسب الخلفيات الخاضعة للتحكم وعلاقة «المُتحكِم بتلك المتلازمة» بالخلفية التابعة له، وحصول تفاوت في نسبة التأثر والتأثير لا يعصم النخبة من مشاركتها لحالات ذلك التفاوت.
وبذلك وحسبما أعتقد لا يخلو أي مصطلح من روح أيديولوجي وأن الزعم بصفاء أي خط اب ثقافي من أيديولوجية حاكمة هو زعم لايتوافق مع الطبيعة الإنسانية، وكل مالايتوافق مع الطبيعة الإنسانية هو ضرب من الهذيان.
كما أن «دلالة الصفاء» ليست داعمة بالتضاد «لدلالة الشائب» إنما داعمة لفكرتي منطقية التعبئة والإفراغ، فيصبح الإفراغ كما يُعتقد مُشكلا للصفاء والتعبئة أيضا كما يُعتقد مشكلة للشائب.
وبذلك فنحن هنا لا نسعى إلى الإضرار بأي الدلالتين لكونهما يتحركان في ظل السائد الذي لايمكن أن نغفل تأثيره في تشكيل «شرطية الثبات بالأحادية والتصديق».
إن الادعاء المتكرر من قِبل صانع الخطاب الثقافي بصفائه من الشائب الأيديولوجي والذي يقابل باحتمال خروج ذلك الخطاب الثقافي وتمرده على شرعية الخطاب الرسمي الراعي لصناعة وعي العقل الاجتماعي هو الذي يخيف صنّاع وعي العقل الجمعي من مساندة ذلك الخطاب الثقافي باعتباره حامل ضمني لثورة مضادة، و محرّض للوعي على فاعلية استقلالية حرية الفكر والاختيار.
وبالنسبة للمتلقي ممثل الوعي ومؤيده بالتصديق والتنفيذ فإن صفاء الخطاب الثقافي من عصبية الأيديولوجية كما يزعم الفاعل الثقافي، تجعل الخطاب الثقافي موصوفا بعدم الأهمية لربط المتلقي الايديولوجية بالقيمة، وبالتالي فأي رسالة ثقافية تخلو من أيديولوجية كما يعتقد ذلك المتلقي هي فاقدة للقيمة، وبعدم جدية الخطاب الثقافي الأخلاقية لربط المتلقي الايديولوجية بفكرة الالتزام الأخلاقي وهذا الحكم غالبا ما يكون حاصل المقارنة بين الخطابين الديني والاجتماعي.
إن الوعي هو مجموع من المعايير والأقيسة التي تشكل جهازي الاختيار والتقويم، وتلك المعايير والأقيسة ليست ضمانا للفاعل النهضوي بقدر من هي مٌوفِرة لمحرك معرفة تٌعين خبرة الفرد على الحركة في الاتجاه المتواتر الذي يعتقد السائد بضرورته وسلامته الفكرية الداعمة، كما أنها موفِرة لروابط الدائرة المنظمة لعلاقات الوعي بالآخر، وأقول ليست ضمانا للفاعل النهضوي لأن توفير محرك المعرفة وروابط الدائرة المنظمة للعلاقات لا يسعيان إلى تطوير الوعي إنما يهدفان إلى ترسيخ التمكين المختص بإنتاج هوية خاصة وتكرارها .
و السبب الثالث لتراجع استحقاق الثقافة عن صناعة وعي العقل الاجتماعي هو ما يعتقده ممثل الوعي ومنفذه «بالغموض الانتمائي لفاعل الثقافة « مما يفقد الفاعل الثقافي وخطابه «مصداقية التعايش الواقعي»، وهو اعتقاد غالبا مرجعه ما يعتقده المتلقي بتطابق المساواة الدلالية بين الخطابات الداعمة لنشأة العقل الجمعي، وبذلك يتجاوز المتلقي «طبيعة الثقافة» على كافة قنواتها بأنها «تمثيل للواقع وليس نقلا عنه بالنسخ «.
وهذا الخاصية الفنية المُلِزمة لطبيعة الثقافة تعتمد على «عالم افتراضي» خاص بالفاعل الثقافي ترفع عنه أي تكاليف جابِرة له بالصدق الواقعي، كما أن هذه الخاصية غالبا «وسيلة تبرير «لتجاوزات الفاعل الثقافي» مما يُنتج في نهاية الأمر تقاطعا بين معايير الصواب والخطأ الذي يؤمن به المتلقي واللامعايير وفقا لكراسة معايير المتلقي، وتلك اللامعايير المٌسقِطة للنمذجة هي التي تُزيد «غموض انتمائه الثقافي» وذلك الغموض هو حاصل الزعم الذي يدعمه الفاعل الثقافي «بصفائية الخطاب الثقافي من شائب الأيديولوجية» وهو سبب في ذات الوقت يُخرجه عن دائرة التأثير الشعبي ويٌركّن الثقافة في خانة صناعة التسلية، مما يدعم هامشية دورتها التأثيرية وتحولها إلى «سقط متاع» ويزيد من رمادية دورها في صناعة الوعي.