الاسم حد من حدود الكائن، فهو ليس دلالةً إلحاقيةً أو قيمةً مضافة للكائن من الخارج، تحمل في ذاتها صفة الانفكاك عنه، إذ الاسم محمول أساسي يُعرف به كائن ما فهو مشروط به وتابع لدالّته الرياضية والوجودية ذات الطبيعة المطلقة، وفعل التسمية شرط أصلي لتملك النقطة الأعمق في الكائن، ولا ريب أنه يحوله إلى شخص تحت متناول اليد، أي يكون أحادي البعد يخضع لمنطقة ضغط معينة، إن هذا الفعل الاستحواذي يُنتج كينونةً تقييدية ذات قيام ماهوي مغلق يترتب عليها اختزال الكائن إلى كمية زمنية ثابتة، معلوم اتجاهها ومستوى طاقتها وقصدها الدلالي، حيث الكائن المسمى واقع تحت إحضارات عينية متعددة، منها: الصواتة القابضة لمقصودها الخاص من دون مسافة، بحيث يفقد الكائن ميله الطبيعي للتوسع والإزاحة، وبذلك يصير صاحب سيرة وحسب، باعتبار أن السيرة - مهما كانت خصوبة عناصرها - محدودة ومقيدة بمبدأ الخفض، ومما يجدر التنبه إليه هو أن السيرة ليست سيرة الواحد لذاته بل هي سيرة الواحد لغيره، ونستطيع أن نتلمس مواطنها ومساراتها تحت قانون الانعكاس واعتبارات النسبة والتدرج الشبكي، أي أن المعطى في هذه الحالة لا يكشف مكوناته إلا في التعالق مع الغيرية.
إذن الواحد لذاته قطب مضاد لمنطق السيرة وتنويعاتها، فهو كائن بلا اسم، قادر على الخروج الجذري، يتضاد بطبيعته مع السيرة أو بالأحرى، يحتاز على سيرة ضوئية، مرنة وهائلة، وبذلك يظهر على مسافة من نفسه بعد أن يبتكر الأشكال والكيفيات لتدمير منطق الاسم وجبرياته القاهرة، فالواحد لذاته يصنع أيسيّته الخالصة عبر الاقتراب والابتعاد مما هو عليه، غير أن هذا الأخير أو الوضع في مقام تمدده، متغير بالضرورة وليس له جذر يعطل حركة الخروج.
حين يلتفت الكائن ولا يعثر على أثره القريب، لكنه مع ذلك يملك صورة مترددة عن حضوره في العالم، صورة متشظية ومتبعثرة في هوامش لا متن لها، حين يتحرر من سلطة الإطار عبر ممارسة واسعة لسيرورته الرمزية التي تنفي عنه صيغة الغائب، وفي الوقت نفسه تقوّض مبدأ الهو هو ومتضايفه المتمثل بإشارة ذات بعدين: البعد الظاهر والبعد الإضماري اللذين يرسمان سحابة التوزع بالتناوب ليظل الكائن ماثلاً كقيمة عددية، وإن كانت هناك فروقات ونوازع في الرتب، سوى أنه يعود هو هو، أقول: حين يستطيع الكائن إنجاز القفزة ليغادر النقطة الأصلية والأهل وعوامل الإسناد، فإنه يتغير من الداخل بشكل جذري على مستوى الشرط الروحي والمنظورية.
هذا الكائن الغريب ملتبس ولا يقيني، لا يدري عن المسعى شيئاً، فهو ذو قيمومة استيهامية، تحضر على نحو شبحي في العالم. هل هو خطيئة انزلقت في الزمن؟ لعل هذا السؤال لا ينطوي على قيمة أو معنى، لأن أحوال وكيفيات الكائن وموجوديته انفصمت عراها عن الأزل وما يترتب عليه من تصورات غائية، إلا إذا فهمنا الخطيئة بمعنى الجرح المتدحرج في الوجود، من دون أن يكون لهذا الجرح علة أو مسند إليه، أو حامل أزلي ينظم العلاقة بين المشير والمشار إليه، والآن يستوجب علينا أن نتطرق إلى أفعال الخروج، فهي ذات مسالك مختلفة، لا تخضع لضرورة هندسية أو نسق سببي يحدد الروابط والدوال.
من هذه الأفعال؛ فعل اللامتوجهية المضاد للزمن الفيزيقي، يتأسس هذا الفعل من خلال التعرف على الصفر في الأشباه والنظائر وتكوين الأشكال المائلة. السديمية وخلق النقاط الحرجة في تخوم الأشياء، هذا التوجه الداخلي للفعل منقوش في بنيته التكوينية، ويجب ألا نخلط بين منظومته الداخلية القائمة على بناء الاتجاهات وبين كيفياته وأساليب اشتغاله في الخارج، فالأخيرة تمتاز باللامتوجهية، بمعنى أنها ضد الأصل الزمني لراهنية الأشياء، وفعل اللامتوجهية يقوم بصناعة آلياته من مادة مماثلة لمادة الحلم، وإن كانت أكثر تطرفاً وديمومة في المدى الزمني.
ولذا فإن المنحنى التفاضلي ولوازمه من الكثرة واللامعنى يتيح لنا أن نتجاوز الجسد التمثيلي الخاضع لإشراط ظاهر، حتى نتحصل على الجسد المضاعف، كونه يملك حلم الآلهة ولا تعيّنيتها وروح الحيوان وصيروراته، إنه جسدُ أكثر من العدم وأقل من الصفر.
واللامتوجهية تملك قانوناً تكثفياً وسرعات لا متناهية، وهي تعبر عن قواها وإمكاناتها في ما يتحقق عينياً، عبر توسط جسدي أو هيأة راسخة لشيء لديه قابلية للمثول هنا والآن، إن القانون الذي أشرنا إليه، ليس قانوناً قبلياً، بل هو نابع من التجربة العينية ذاتها، إلا أنه قانون يعمل على تبديد البنية من جهة ويعمل من جهة أخرى على تثبيت أثر هذه البنية بوصفه – الأثر – علامة للزائل والمنسحب، المنطوي على دليله الخاص . دائماً تظهر البنية لتكون مهيأة بفعل ظهورها للتدمير، فيما يبرز الأثر ويشتدّ وهو لا يتوارى إلا ليحضر. ولعل القوة الأصلية للأثر تتمثل في كونه لا ينتمي إلى وحدة سكونية، فهو صاحب فيوضات، وعليه فالكائن أو حيوان الإشا رة أو المنشغل بـ: ( موته ) سيظل في الحينونة لابثاً لا يقوى على التحرر من نقطة العماهة هذه، ما لم يتحرر من تصوراته ومنظوماته المعرفية كحيوان تاريخي . بحيث يلزمه أن يتدبر الأثر ككائن غير مؤكد في أساس هذا العالم، إن اللامتوجهية فضاء لتلقي الحدث والتفاعل مع أشكاله الماكرة حيث تحدث هذه الأخيرة ضمن مسار صامت ولا تنبؤي، أما طريقة من لا يتوجه أصلاً بفعل أس معين، إنما تقوم على التحول نحو الخلاء، للانفلات من حبسة الكائن، وبما أن فعل اللامتوجهية ليس معادلاً مفهومياً للعدم، فإنه كما نؤكد لا يبرز على مستوى التضاد وحسب، بل هو اشتداد مكافئ لقوة اللاشكل، سالبُ للموت نفسه، لكنه في حل من الخافضية التي تدلل على وجه معين من أوجه الكينونة . وبذلك نخلص إلى الاعتبار التالي: إن المفهوم الخاضع للتدقيق والتقصي يمر بحالة أولية، وهي مناط العلة في تركيبنا: التعين الحسي، يتحصل هذا التعين الحسي، يتحصل هذا التعين على وظيفة ودور في الوجود ، وهو ما نسميه بشكل أشمل (طور الرغبة) أو امتلاك الحساسية للتوجه للخارج، ومن خلال هذه التخارجية تنشأ مكونات وبنى تتجذّر في الزمن . ويترسخ بالجوهر فعل الغاية الذي هو كلي، يقع إما في مرمى النظر، أو كقيمة مجردة أبعد من حدود المرئي، بيد أن القيمومة وتحديداً لأنها تابعة لعوامل: الفاعل – الفعل – المنفعل، مهما حاولت أن تحافظ على قوتها وتعلقها بحوافز الرغبة، أو أن تؤوب إلى الحد الأدنى من الكائنية إلا أنها ترتطم بالراّد السلبي للأثر، إذا لا تنفع في هذه الحالة، أية آلية تعويضية أو دفاعية يطورها الكائن طالما أنه لم يخرج على طور التوجه نحو غاية ما، هكذا نظل دون مستوى الصيورة، التي لا تفتأ تجرف الثابت وتعود بالمختلف والمغاير . كيف نخرج إذا عن طور التوجه نحو غاية ما ؟ يحدث ذلك إذا قمنا بتوطين نظام خاص من الكينونات، على إثرها تنبع صيرورة جوانية ذات وزن
خاص، تتصادى وتتقاطع مع الصيرورة بمفهومها الشامل، القائم على اللعب الأبدي وإنتاج الكون المغاير، وهنا يتشكل الفرداني دون جوهر أو غاية أو طريق، حيث المفعول الأساسي للامتوجهية يكون أكثر نجاعة وهو يتلقى الحدث.