يُعرف أن آخر الدول الأوروبية الغربية المستقلة استقلالاً تاماً كما نرى اليوم هي إيطاليا التي كانت عبارة عن ممالك ممزقة ومتناثرة ومتناحرة يصطادها الغازي بسهولة ويسر فاللومبارد ونابولي وروما وصقلية وفلورنس وتسكانيا وأبوليا والبندقية، عبارة عن دويلات يحكمها ملوك وأمراء إقطاعيون حتى القرن التاسع عشر ومؤتمر فيينا 1815م وبالتحديد بعد معركة كوستوزا حزيران 1866م ولم يعرف عن أحد الإيطاليين أنه كان يحلم حلماً سعى خلفه بكل ما أُوتي من قوة وجاهد بخيله ورَجْله ليرى إيطاليا أمةً موحدةً يحكمها حاكم واحد بلغة واحدة وشعار واحد كدورانتي ألغيري الذي اختصر اسمه فيما بعد إلى دانتي! الذي شغل الأوروبيين قروناً بأدبه وتضحياته فكان مثال المواطن الوفي، وكان بينه وبين ذلك ستة قرون حتى بليت عظامه كل البلى، وحتى تحقق حلمه وحلم الإيطاليين المخلصين، ودانتي رجل متقلب المزاج متلون في حياته متعجل في قراراته شديد الحب لوطنه! فالمتتبع سيرته يرى ذلك بوضوح جلي أنه كان متديناً يعيش حياة منقطعة إلى الكنيسة ويتضح ذلك من شعره الديني الذي يوجهه إلى الله وحده يقول في قصائده الحياة الجديدة:
أجد في قلبي قوة تدفعني إلى أن أخدم الله لكي يكون مثواي الجنة
المكان المقدس الذي سمعت أن البهجة والنعيم يفيضان في كل مكان فيه، بل هو أحد الأشخاص المتنفذين دينياً في فلورنسا مسقط رأسه وعضو من أعضاء اللجنة الكنسية في المدينة، وربما كانت لهذه الحقبة من حياته الأثر الكبير في عمله الأسطوري الملهاة المقدسة التي كتبها بلغته الأم الإيطالية، دليلاً على إخلاصه ووطنيته التي دفع حياته ثمناً لها متجنباً اللاتينية المنتشرة ذلك الوقت!!
ولذلك ليس من السهل أن يدخل الحب في قلب رجل دين ويتغلغل ثم يطاع من الأدنين العقل والروح! من أول نظرة فذاك قد يكون بعيدا بحكم عدم وجود فراغ عاطفي دنيوي فللحب نوطة في القلب ونار مستعرة تظل تؤجج بإلحاح اللقاء واستمرار العاطفة الجيّاشة دائماً وحب الملازمة كالظل التي لا تغيب شمسه! وفرق بينه وبين الإعجاب الذي يكفيه لقاء ونظرة وكلمة حتى لو ارتفع ذلك إلى الرثاء! وبياتريس في نظري لم تكن حباً خالصاً له وإنما إعجاب ودليل، ذلك أنه لم يكن بينهما لقاء ذو شجون وبوح لما في الصدور وإنما نظرات وابتسامات وقد تزوجت بياتريس فيما بعد برجل آخر لم يكن تأثير ذلك على دانتي تأثيراً كبيراً بل لم تكن هناك مبالاة فعلية وإنما هو أيضاً تزوج وأنجب ولم يندم على ذلك، وهذا خلاف ما ذكرته كثير من المصادر أنه حب لم يتوّج بزواج! أو حب خفيف كما يقول ديورانت! ودليل ذلك أنه تعلق بفتيات أخريات أي حب خفيف بعد حب خفيف! وهو في الحقيقة إعجاب بعد إعجاب لا أكثر! وقد رثى بياترس حينما علم بوفاتها وفي رثائه لها لمحات من الطهر والنقاء وصفها بها من دون أن يدون ذكريات محب أو قصص عاطفية كانت بينهما، يقول:
صعدت بياتريس إلى السموات العلى
إلى الملكوت الذي يتمتع فيه الملائكة بالسلام
فهي تعيش معهم وإن فقدنا الأصدقاء
ولم يدفعها إليه زمهرير الشتاء
كما يدفع غيرها من الناس
لا ولا حر الصيف اللافح
وأنت ترى الصور والألفاظ الدينية في معرض رثائه عن الآخرة وكيف تأثر شعره بحياته الدينية (السموات، الملائكة، الملكوت، السلام)، كانت تلك المرحلة هي استقرار وتأمل وسرعان ما انقلب عليها فالحياة الدينية الخالصة لرجل متزمل فيها بثياب القديس يحده جدران الكنيسة بأجراسها يشدو فيها، تراتيل التمجيد وشعر الإيمان قد لا يحرران وطنا ويوحدانه تحت اسم واحد ليس له حدود فيما بين مدنه ولغته الخاصة، فآثر أن يخلع عباءة القسّيس وأن يُشمّر عن ساعديه وأن يلبي نداء الوطن لوحدته مع الحفاظ على تدينه على مضض، ولذلك ظلت قصائده الدينية حتى الملهاة المقدسة! تنبع من أساس ديني حتى لو تلون بألوان الحب والسياسة!
الملكية المطلقة: أثناء خوض دانتي المعترك السياسي في فلورنسا عبر المجلس البلدي كانت فكرة الحرية قد علقت في ذهنه وطريق ذلك يكون عبر التصور المنطقي للملكية المطلقة وهي عبارة عن رؤى ونظريات كتبها والحقيقة هي مدخل نحو حرية الإيطاليين المكبّلين بالبابويات الكنسية التي ترفض توحد الطليان، ناهيك عن الأطماع الشخصية للكونتات والأمراء فهو ينادي بدولة فاضلة عالمية تحافظ على الملكيات ولها شريعة ونظام واحد وهي ردة فعل لما عليه حال الممالك الإيطالية من تشرذم، فحالها أفضل بيد ملك يجمعها ويحكمها باسم الإله واللاهوت وتكون قوة تحت راية واحدة لا يستهان بها، فكانت هذي بمثابة المحرض الرئيس على الثورات من أجل التوحد بين المناطق والمقاطعات الإيطالية، وقد كتبها باللغة الدارجة اللاتينية حتى تصل إلى أكبر عدد من الشعب الإيطالي، مما حدا به أن يرحب بغزو هنري السادس إمبراطور ألمانيا لبلاده لعله يجد في استيلائه على الممالك الإيطالية فرصة للتخلص من الخونة والطامعين، فأرسل في الآفاق لكل المدن الإيطالية بالترحيب بالملك القادم عدا الكنيسة البابوية التي ما فتئت تحرض الأمراء الإقطاعيين على فريدرك الثاني الذي يدعمه دانتي بقوة ويرى فيه البطل الموحد القادم حتى قضت عليه، ودفع دانتي ثمن ذلك النفي والتشرد بعد تخفيف عقوبة الإعدام وعدم العودة إلى الديار أبداً فكان حياة البؤس والشقاء بانتظاره خارج أسوار مدينته الفاضلة التي يحلم أن تكون كذلك يوماً.
الكوميديا الإلهية: وأياً كان المسمّى واختلافه فإن الجميع شهد لهذا العمل بالتفرد وإن البشرية الأوروبية لم تصنع مثله فيما بعد! فإن دانتي لا يُعرف إلا إذا ذُكرت الكوميديا ولم نعرفه نحن في الدراسة الجامعية إلا عن طريق تلك الكوميديا، ولا أريد أن أستطرد إشكالية النقاد والباحثين في استلهام دانتي للملهاة وتأثره برسالة الغفران للمعرّي، فقد أسهب فيها الكثير ممن عني بالآداب المقارنة ودراسة آداب العصور الوسطى، وأنها الفاصلة بينها وبين الأدب الأوروبي الحديث، ومنذ ولادتها وخلال القرن الماضي والباحثون يصرّون على تأسي دانتي بالمعرّي، بل بلغ بأحدهم وهو الدكتور فواز طوقان أن جعل أصل دانتي عربيا من إحدى العشائر، حيث استدل بأل التعريف التي في (اليغيري) وهذا بعيد جداً!! إلا أن مقارنتهم لذلك تستند على أن الإنجيل لا يوجد به إلا تعاليم دنيوية ويخلو عن مآل الإنسان في الآخرة وما يجد فيه من نعيم أو عذاب سوى الإصحاح (21)، وهو عبارة عن سماء جديدة وأرض جديدة وعبارات مختلطة عن حياة جديدة! وعلى اختلاف العملين من حيث الموضوعية فإن الهدف واحد ومصادر تأثر دانتي كثيرة، فبجانب بلاط فريدريك وتردد الرحالة العرب عليه فقد ذكرت المصادر أن بلاطه كان يتردد عليه مجموعة من الشعراء العرب هذا بجانب استعانة الغرب بالثقافة الأندلسية المسلمة وذيوع القرآن الكريم كأهم عنصر للمرء المسلم وحفظه بما فيه من النعيم المقيم للمؤمن والجحيم المستعر للكافر وقصص الأمم السابقة والمسيحي المثقف كان على دراية به والبحث في سوره وآياته! عدا اطلاعه الواسع على الثقافات الدينية للأديان الأخرى السماوية منها والوثنية! ولا ننسى مرشده الروحي في الشعر وفي الكوميديا شاعر الرومان فرجيل! الذي طالما يذكره كأستاذ يتأسى به في أعماله! وإذا نظرنا إلى العقيدة النصرانية فإننا نجد التسلسل الدرامي لحياة الإنسان ويبدأ بالخطيئة ثم الفداء ثم الصلب، وهو الجزاء المفضي إلى الخلاص وهذه الأربع شكلت نواة العمل للكوميديا فالجحيم هو الخطيئة والفداء والمطهّر هو الصلب والفردوس هو الخلاص وما بينهما يكون العذاب، ولا شك أن المغذي الرئيس لمرحلة الجحيم هو تشرده وحال اليأس الذي دب في قلبه بعد النفي، ثم تكون الحكمة والعقل وهو المطهر والحب الذي تمثله بياتريس كأنموذج هو الخلاصة والثمرة التي يقطفها من الحياة وهو الفردوس! وأناسيه بطبيعة الحال من يراهم على حق حتى لو كانوا عبدة أثان، وأصحاب الجحيم من الخونة والمتآمرين عليه وعلى فلورنسا وإيطاليا ولو كانوا قساوسة ورهبان!، كل هذا الجمال والإبداع والموهبة قد يختصرها دانتي في حقيقة يراها جديرة أن يعيشها كل من يملك قلبا منفتحا على ما وهبه الله لعباده على هذه البسيطة (أليس وسعي أن أستمتع بنور الشمس وجمال النجوم؟ في كل مكان على ظهر الأرض؟ أليس بمقدوري أن أفكر في أعظم الحقائق شأناً تحت كل سماء؟!).