من الطّبيعي جدّاً أن يتّكئ كاتب ما على جهود إبداعيّة سابقة. ذلك أنّ الكتابة لا تنمو في الفراغ، وإنّما هي تحتاج إلى تلك الأرض الخصبة التي تمدّها بالرّؤى والأفكار. الثّقافة برمّتها هي في النّهاية مشاع إنساني، وللمبدع أن ينهل منها ما يشاء. الشّرط الوحيد الذي ينبغي التنبيه إليه فقط يتعلق بضرورة هضم ما نأخذه بحيث يبدو هذا الأخذ في نهاية المطاف جزءاً أصيلاً من العمل الجديد. هكذا يغدو النص الجيد الذي يمكن أن ينهل من الكتابة نصا متفرّداً عمّا حوله من نصوص، وهكذا يغدو كاتبه (نسيج وحده) على حد تعبير أبي العلاء المعري.
رواية ماركيز الأخيرة (ذكريات عن غانياتي الحزينات) ربما كانت من الروايات القليلة في عالم الأدب التي اتكأت بشكل كبير ومباشر على روايات سابقة عليها، والمقصود بذلك هنا رواية (الجميلات النائمات) للروائي الياباني (ياسوناري كواباتا). إذ إن رواية ماركيز لم تكتفِ بتناول الموضوعة الرئيسة في رواية كواباتا، وإنما تسلّلتْ إلى طبيعة البنية الروائية التي اقترحتها رواية كواباتا. لقد أصبح الأمر هنا شبيهاً بحالة رجل يقع في غرام امرأة هي عشيقة لرجل آخر. أمام هذا الوضع المربك نسأل هل يمكن أن ينجح مثل هذا الحب؟ وبالتالي هل يمكن أن تنجح مثل هذه المغامرة الروائية؟؟
منذ فترة طويلة نسبياً أعلن ماركيز عن فتنته برواية كواباتا، وقد تجلّى ذلك بتلك المقدمة التي كتبها ماركيز لإحدى طبعات الرواية، والتي كانت عبارة عن نص مدهش لا يقل جمالية عن نص الرواية: ففي الطائرة التي أقلّته في إحدى رحلاته من كولومبيا إلى باريس، يتفاجأ ماركيز بتلك الهِبَة السماوية التي حطّت بجانبه في الطائرة، والتي لم تكن سوى امرأة يابانية في منتهى العذوبة. فكّر بينه وبين نفسه أن تلك الرحلة ستكون ممتعة. ولكن تلك المرأة لا تلبث أن تتناول شيئاً من الحبوب المنوّمة، وذلك حتى تقيها مشاكل السفر وخضّات الطائرة. وهكذا، فبعد أن يتبادل عبارات المجاملة القليلة معها، تذهب المرأة في سبات عميق لمدة ثماني ساعات، هي زمن الرحلة عبر الأطلسي. أخيراً تستيقظ المرأة على صوت عجلات الطائرة وهي ترتطم بأرض المطار الباريسي. مثل هذه المصادفة التي حدثت مع ماركيز أشعلت كيانه كلّه ودفعت به ليكون واحداً من شخوص رواية (الجميلات النائمات) للروائي الياباني كواباتا، ولكن بصيغة أخرى وضمن ظروف أخرى. لقد تلبّسته أحداث تلك الرواية حتى إنه حين ملأ البطاقة الخاص به في المطار كتب البيانات التي تفيد بأنه مؤلف ياباني ويحمل الجنسية اليابانية!!
تتمحور أحداث رواية (الجميلات النائمات) للروائي الياباني ياسوناري كواباتا، حول نُزُلٍ خاص بالرجال المسنين، الذين جنح بهم قطار العمر إلى صحراء الشهوات، وصاروا يحاولون جاهدين أن يتواصلوا مع الحب، ومع تلك الفتنة التي تبثها تلك الأجساد الجسورة التي للنساء الصغيرات. يدخل الرجل الكهل النُّزُل فتستقبله المرأة المسؤولة هناك. وبعد أن يتناول شيئاً من (الساكي) تنبّهه إلى مجموعة من التعليمات التي ينبغي عليه مراعاتها.. يذهب الرجل إلى الغرفة الخاصة به ويستلقي في السرير ليتأمل الجسد الباذخ النائم بجواره دون أن يلمسه أو يوقظه. لا يلبث الرجل أن يأخذ قرصاً منوّماً. حين ينام تستيقظ الفتاة وتغادر. لقد أرادت الرواية أن تفتح عيوننا على تلك المنطقة الملغزة في الحياة، منطقة الجمال الآسر والمحرّم في الوقت نفسه، الجمال الذي يضيء أمامنا ويتسرب من بين أصابعنا ولا نطاله.كأن الحياة كلها إذن نوع من الشقاء بالجمال.
رواية ماركيز (ذكريات عن غانياتي الحزينات) لا تختلف كثيراً عن تلك الأجواء التي تتحرك فيها أحداث الرواية اليابانية السابقة. فثمة رجل مُسِنّ هنا أيضاً يريد أن يحتفل بعيد ميلاده التسعين، فيتصل بـ(روسا كاباركاس) التي تدير هي الأخرى نُزُلاً خاصاً بها من أجل أن تعرّفه على إحدى الفتيات المراهقات العذراوات. عبر عدة زيارات لذلك النزل يحدث مع ذلك الرجل ما كان يحدث مع الرجال المسنين في رواية (الجميلات النائمات) لكواباتا. إنه في كل مرة يجلس على السرير، ويتأمل الجسد المحتدم إياه، من غير أن يستطيع إيقاظه. لأن ذلك الجسد نائم هو الآخر بفعل مخدر ما. تستمر معاناة الرجل المسن مع ذلك الجسد البكر الشهي ولكن البعيد غير القابل للقبض عليه.
في الواقع نحن أمام الحبكة الروائية نفسها، وأمام الأحداث نفسها والأشخاص أنفسهم. ولكن ما الذي حاولت رواية ماركيز أن تضيفه؟
بالإضافة إلى الجوانب التي أضاءتها رواية (الجميلات النائمات) فإن ماركيز يركّز في روايته على بعد آخر يتصل بديمومة الحياة بما فيها من جمال ومتعة وصخب. المرأة هنا تصبح محرّضةً على الحياة، وتوّجه دفة الرجل في بحر الأهوال والمخاطر. والحياة تصبح بفضل المرأة بمثابة إبحار في اللجة الصعبة: « اخترقتني الفكرة السعيدة بأن الحياة ليست شيئاً يجري كنهر (هيراكليتو) العكر، بل هي فرصة وحيدة للتقلب على النار ومواصلة شواء النفس من الجانب الآخر خلال تسعين سنة أخرى»، ذلك ما يقوله ماركيز على لسان بطل الرواية.
في خضم هذه النشوة الفائرة التي يؤججها الحب، تغدو الشيخوخة مظهراً خارجياً من مظاهر الجسد لا تتصل من قريب بتلك الجسارة والنار التي تشتعل في الأعماق، حيث تنفتح في جدار الحياة تلك الكوى النورانية، ونطل على أنفسنا وعلى الأشياء إطلالة عذبة مختلفة.
هكذا يتحول الرجل التسعيني إلى هيئة شاب مراهق ومريض، ولكنّه مريض بالحب، كما يقول ماركيز مرّةً أخرى على لسان بطل روايته: «السكرتيرة التي قبّلتني في مساء عيد ميلادي، سألتني إن كنت مريضاً. كنت سعيداً بإجابتي لها بالحقيقة حتى لا تصدقها: مريض بالحب».