عدد قراء الشعر في أمريكا انخفض إلى النصف خلال آخر 16 سنة
تقديم: هنا مقالة فريدة وهامة بقلم المحرر الأدبي لمجلة نيوزويك ونشرت في 24 مارس 2009 على الموقع الإخباري «ذا ديلي بيست» (The Daily Beast) على النت الذي اندمجت معه مجلة نيوزويك بعد توقف طبعتها الورقية.
هل هي نهاية الشعر؟
تقرير «الوقف الوطني الأمريكي للفنون والآداب» (سنسمية «الوقف») الأخير وجد أن قراءة الرواية في ارتفاع، في حين أن قراءة الشعر قد انخفضت بشكل ملحوظ. فهل هي نهاية الشعر؟!
في يناير 2009، أصدر «الوقف» تقريرا بعنوان «القراءة في ارتفاع»، معلنا أن عدد البالغين (18 سنة ومافوق) في الولايات المتحدة الذين يقرأون الرواية قد زاد للمرة الأولى منذ أن بدأ «الوقف» في رصد عادات وأنماط القراءة في عام 1982. ووفقا للتقرير، قام 50.2% من البالغين بقراءة عمل روائي في عام 2008، مقارنة مع 46.7% في عام 2002. وتم استقبال النتائج بمزيج من الفرحة والحذر من قبل خبراء التعليم. رأى بعضهم النتائج كانقلاب طال انتظاره من المسير نحو أمريكا غبية ومهووسة بالتلفزيون ؛ والبعض الآخر، وهم أكثر حذرا، اعتبروها مجرد فذلكة إحصائية شاذة ومؤقتة. وأشار التقرير أيضا إلى أن عدد البالغين الذين يقرأون الشعر قد واصل الانخفاض، ليصل بذلك عدد قراء الشعر إلى أدنى مستوى له خلال 16 عاما على الأقل.
هذه النتائج الكئيبة عن الشعر تناقض بحدة ليس فقط الارتفاع العام لقراءة الرواية، ولكن أيضا جهود المنظمات العديدة المناصرة للشعر في البلد، والتي كانت طوال السنوات العشر الماضية تضع برامج لجذب عدد أكبر من الجمهور للشعر. هذه البرامج هي على الأقل – جزئيا – تعتبر رد على شعور متزايد بأن الشعر في طريقه للفناء في الولايات المتحدة؛ وتشمل هذه البرامج «الشهر الوطني للشعر» (أبريل)؛ والقراءات الشعرية والمحاضرات والمسابقات التي تعقدت في جميع أنحاء البلاد؛ وكذلك مبادرات لتشجيع نشر القصائد في المطبوعات السائدة مثل الصحف؛ وأيضا مختلف الجهود لتعزيز تواجد الشعر على الإنترنت (موقع Poets.org، التابع لأكاديمية الشعراء الأميركيين، أطلق نسخة مناسبة لجهاز آي فون). ولكن وفقا للتقرير، في عام 2008 كان 8.3% فقط من البالغين قد قرأ الشعر في الأشهر الـ 12 السابقة. وكان هذا الرقم 12.1% في عام 2002، وفي عام 1992، كان 17.1%، وهذا يعني أن عدد الأشخاص الذين يقرأون الشعر قد انخفض إلى النصف تقريبا خلال السنوات الـ 16 الماضية.
الشاعر والناقد دانا جويه، الذي كان رئيسا لمجلس إدارة الوقف الوطني للفنون والآداب عندما صدر التقرير الجديد ولكنه ترك منصبه بعد ذلك، يعزو الفضل في زيادة قراء الرواية لعدد من العوامل، بما في ذلك توفر القراءة على الإنترنت ؛ ومبادرات «الوقف» مثل حملة «بيغ ريد» (Big Read) التي بدأت في عام 2006 وتسعى لحث مجتمعات بأكملها لقراءة عمل روائي واحد ومناقشته بصورة جماعية ؛ وجهود المعلمين ؛ ونجاح سلسلة كتب مثل «هاري بوتر» و«الشفق». ويذكر جويه أيضا نادي أوبرا للكتاب كمحفز.
الشعر مع كل جماله ومزاياه، لا يوجد لديه برنامج أو جماهير لمنافسة الشعبية الحالية لأوبرا وينفري وهاري بوتر، ولكن بالرغم من ذلك، فإن تراجع جمهوره، المتواضع أصلا، يستحق التفكير. بعض النقاد والقراء يدَّعون أن معظم الشعر اليوم متقوقع وصعب، أو أنه بصراحة: «رديء». ولكن وجدت دراسة استقصائية أجريت في عام 2005 عبر الهاتف من قبل المركز الوطني لأبحاث الرأي بالنيابة عن «مؤسسة الشعر» أن 2% فقط من أفراد العينة أفادوا أنهم لم يقرؤوا الشعر لأنه كان «صعبا». ويؤكد «شاعر أمريكا» السابق دونالد هال أن: «معظم الشعر في أي عصر هو رديء، ولكن هذه الحقيقة لم تمنع الناس من قراءة الشعر في الماضي».
قد تكون هناك عوامل أخرى تعمل ضد الشعر. فوفقا لمسح المركز الوطني لأبحاث الرأي السالف ذكره، الذي شمل حوالي 1,000 شخص بالغ من الذين يقرأون باللغة الإنكليزية (للمتعة وليس كواجب مدرسي) في المقام الأول، فإن الناس الذين لا يحبون الشعر - وبالتالي لا يقرأونه – هم إجمالا يكونون أولئك الذين لم يتعرفوا عليه جيدا. «خبراتهم المدرسية مع الشعر كانت محدودة إلى حد ما، ومعظمهم قرأ أولا الشعر الكلاسيكي، من النوع الذي قد يكون أكثر صعوبة وغير ذي صلة مباشرة بحياة المراهقين مقارنة بالشعر المعاصر»، كما خلص التقرير. ويضيف التقرير: «ويبدو من المرجح أن تصورات الناس المسبقة عن «صعوبة» الشعر هي أكبر العوائق التي تحول دون قرائته».
تعريف المزيد من الناس على الشعر هو بالضبط ما يحاول القيام به مناصرو الشعر، والأدلة تشير إلى أنهم أبلوا بلاء حسنا للغاية. «الشهر الوطني للشعر»، على سبيل المثال، والذي بدأ في عام 1996، أصبح مناسبة أساسية ثابتة يُحتفل بها في الآلاف من المدارس ويُحتفل به في المجتمعات المحلية في جميع أنحاء البلاد. كما سجل موقع «شعراء دوت أورغ» (Poets.org) أكثر من 10 مليون زيارة في العام الماضي (2008) مقارنة بحوالي 4.5 مليون زيارة في عام 2001، ومجلة «شعر» (بوتري)، وهي المطبوعة الشعرية الأقدم والأكثر احتراما في الولايات المتحدة، تضاعف توزيعها ثلاث مرات منذ عام 2003 ليصل إلى 30,000 نسخة شهريا حاليا.
ربما كان البرنامج الأكثر نجاحا، وتطلعا للمستقبل هو «الشعر بصوت عال»، وهي مسابقة لقراءة الشعر لطلاب المدارس الثانوية تماثل مسابقة التهجأة الوطنية Scripps National Spelling Bee التي ترعاها بصورة غير ربحية «مجموعة آل سكريبس الإعلامية». أسس كل من «الوقف» ومؤسسة الشعر مسابقة «الشعر بصوت عال» في عام 2006، وشارك في السنة الأولى كمسابقة وطنية حوالي 40.000 طالب وطالبة.
وفي هذا العام (2009)، سيشارك تقريبا 300,000 طالب، حيث سيقرأون الشعر المعاصر والكلاسيكي. يقول ستيفن يونغ، مدير البرنامج من قبل «مؤسسة الشعر»، إن هذا الحدث تم تصميمه ليكون وسيلة أكثر حيوية لجذب الجمهور الشاب للشعر. ويضيف يونغ: «أعتقد أن المسابقة جاءت في توقيت رائع، لأننا نعيش زمن اندثر فيه حفظ وتلاوة الشعر من الخريطة التربوية، وتسيد المشهد الطلابي صرعات وموضات مثل «شعر سلام» Slam Poetry و«الهيب هوب»، والشعر الأدائي»، بحسب قوله. ويشرح يونغ «لقد صممنا مبادرة «الشعر بصوت عال» كأسلوب مبتكر لتدريس الشعر، بل ربما أكثر متعة من أسلوب تدريس الشعر في الماضي عندما كنت أنا طالبا في المدرسة الثانوية».
ولكن بالرغم من أن الأدلة الحكائية (أي كلام الناس) تشير إلى أن الاهتمام بالشعر آخذ في الارتفاع، على الأقل بين بعض فئات الجمهور، فإن أرقام «الوقف» يصعب تجاهلها. يستند تقرير «الوقف» على مسح بعنوان «المشاركة الشعبية في الفنون»، الذي نفذه مكتب الإحصاء الأميركي. كانت عينة المسح تتكون أكثر من 18,000 شخص راشد، والتي تعادل تقريبا 20 ضعف لحجم معدل استطلاع وسائل الإعلام، وكانت موزونة من قبل مكتب الإحصاء لتعكس تنوعات سكان الولايات المتحدة الحالي. ولذلك فهو يعتبر إلى حد بعيد أكبر دراسة أجريت مؤخرا عن أنماط القراءة في الولايات المتحدة.
حتى لو انخفضت معدلات القراءة، فليس كل شخص معني بذلك الأمر. وفي الواقع، فإن فكرة «الشعبية» (Popularity) نفسها هي أمر إشكالي في المجتمع الشعري. وفي كلمة أمام «رابطة الأدباء وبرامج الكتابة» في فبراير الجاري، وصف رئيس مؤسسة الشعر جون بار، كيف أن كتابة الشاعر الجماهيري للقارئ العادي اختفت أساسا مع ظهور الحداثة. لقد تم استبدال نموذج شعراء القرن الـ 19 الذين ينشرون في منابر مثل الصحف السائدة إلى نموذج القرن الـ 20 حيث أدى تزايد تشظي وصعوبة الشعر إلى عدم فهمه إلا عبر المتخصصين ما أدى لنقله إلى الفصول الدراسية الجامعية. وأصبح اليوم وصف قصيدة بـ «السهلة» يعتبر عمليا «إهانة» لا بل ويسخر بعض الشعراء المتطرفين (في حب فنهم) من مناسبة ترويجية رائدة مثل «الشهر الوطني للشعر» لأنه يقلل من شأن الشعر عبر خفض مستوى هذا الفن النخبوي المركب لينزل في كثير من الأحيان إلى مستوى سطحي وتافه ليصبح في متناول العامة.
وبعد سنوات قليلة من إطلاق «الشهر الوطني للشعر»، قال الشاعر (المتطرف في حب فنه) تشارلز بيرنشتاين في مقال ناري: إن شهر أبريل أصبح الآن مناسبة «يسحب فيه الشعراء رمزيا إلى الميدان الرئيس في المدينة لكي يتم إهانتهم وإذلالهم بالزعم الذي يقول إن منتجاتهم لا تحقق ما يكفي من الرواج». وأضاف إن «الشهر الوطني للشعر يهدف لجعل الشعر آمنا من الناحية الأخلاقية للقراء عبر تشجيع أمثلة من هذا الشكل الفني في نماذجه الأكثر سطحية وبساطة والأكثر «إيجابية» أخلاقيا».
يقول بار، الذي يرأس المنظمة التي تحاول تمثيل الشعراء، حتى أولئك الذين يقولون إنهم لا يحتاجون أو يريدون الدعاية لتوسيع دائرة قرائهم: إن «نقص عدد من يقرأون الشعر ليس بالضرورة أمرا سيئا». ويضيف: إن الهدف هو أن تعثر كل قصيدة على أكبر عدد من «جمهورها المقصود». وتقول تري سوينسون، المديرة التنفيذية لأكاديمية الشعراء الأميركيين: «نظرا لطبيعة الشعر، فلا يجب أن يكون هدفنا «قراء أكثر، قراء أكثر، قراء أكثر»، ولكن المزيد من الإندماج والتعمق بمعاني الشعر وابتكار المزيد من أنواع الشعر التي تؤثر في الناس ليهتموا بالشعر الأكثر إبداعا».
بالطبع، من المفترض الآن أن يكون الشعر يحتضر منذ عدة أجيال أي بعدما كتب الناقد إدموند ويلسون في عام 1934 مقالا بعنوان «هل النظم أسلوب ينقرض؟» وبعد أربعة وخمسين عاما كتب الناقد جوزيف إبستين مقاله «من قتل الشعر؟» واكتسب دانا جويه رئيس مجلس إدارة «الوقف» السابق الشهرة مع مقاله في 1991 المعنون «أزمة الشعر والشعراء». وقد خلص ثلاثتهم - إلى حد ما – وهم يجيبون على أسئلتهم الرمزية أن تركيز الشعر في أيدي الخبراء وقاعات الأكاديميا كان أمرا سيئا للشعر».
ولكن يقول «شاعر أمريكا» السابق دونالد هال في مقال ناري نشره في عام 1989 بعنوان «الموت لمن قال بموت الشعر» إنه سمع كل ذلك من قبل: «عمري 80 عاما، وطوال 60 عاما كنت أقرأ باستمرار أن الشعر يحتضر ويفقد جمهوره»!!
** ** **
الأسبوع القادم: قراءة غير تبجيلية...
الشريعة في السودان: التطبيق والنتائج (1-4).