فريد بلكاهية طوع النحاس ونقش الجلود واسس فناً يحمل هويته وتراثه
على الرغم مما في المغرب العربي من كنوز إبداعية كبيرة انتشرت ووصل صداها إلى كل أطراف الكرة الأرضية انطلاقا من اقرب جسور التواصل مع أوروبا التي حظيت بقربها منها بالكثير من الفرص للتعريف بالفنون كما سهلت تنقل الفنانين، هذا الحضور للفن الغربي لم يكن للفنانين في المشرق العربي ونعني بذلك كل من بالخليج العربي واخص بالتحديد الفنانين بالمملكة العربية السعودية، وذلك لأسباب منها أن اغلب المعلمين الذين انتدبوا أو تم إيفادهم للتدريس بالمملكة في مجالات الفنون أو التربية الفنية من دول محددة منها العراق وفلسطين ومصر، وكان لهم دور كبير في إرساء تجاربهم وأساليبهم والتعريف بفنون دولهم للمجتمع التشكيلي السعودي، إضافة إلى اهتمام مصر والعراق بالمطبوعات والإصدارات.
إطلالة على الفن التشكيلي في المغرب
“ميلاد الرسم الإسلامي بالمغرب”. إصدار ليس بالكبير لكنه غني بالتوثيق عن الفن التشكيلي في المغرب مؤلفه “سانت - إينيان” المح فيه إلى بدايات الفن في المغرب الذي كان يعتمد على الفنون الإسلامية تطرق فيه إلى بعض الأسماء منها، عبد السلام الفاسي وحسن الكلاوي ومريم مزيان وعمر واشار إلى انهم الفئة المتعلمة التي تلقت أسس الفن كما أضاف إليهم كل من اليعقوبي ومولاي أحمد الإدريسي والحمري. هكذا بدأ حضور محتشم لبعض رسامين مغاربة ابتداء من سنة 1951 في صالونات رسامين أوروبيين في المغرب. وفي سنة 1952، في صالون الشتاء بمراكش، عرض فريد بلكاهية، وعمر مشماشة، والطيب لحلو، وحسن الكلاوي، ومولاي أحمد الإدريسي، ومحمد الحمري، ومحمد بن علال. انطلقت بعد الاستقلال معارض فردية لكل من فريد بلكاهية ومريم مزيان، أول رسامة في المغرب كما شارك المغرب في أول بينالي للشباب في باريس، حيث وقع الاختيار على الغرباوي وكريم بناني وبلكاهية وحسين والمليحي والباز.
فريد بلكاهية حجر الزاوية في الفن المغربي
من يتابع السرد التاريخي للفن التشكيلي المغربي عامة عبر أقلام النقاد والمؤرخين المغاربة الذي اقتطعنا ما ألمحنا إليه في المقدمة أو في الإشارة الموجزة عن الفن في المغرب أن للفنان فريد بلكاهية حضورا رياديا في جانب التأسيس وفي جانب الأسلوب أيضاً كما كان يسعى لتجديد مفهوم الفن وتعليم الفنون، فأحاط نفسه بمجموعة من رواد الفن بالمغرب.
منهم محمد المليحي، محمد شبعة، والحميدي وحفيظ، وطوني مارايني، وبيرت فلينت الذي تكلَّف بتاريخ وجاك أزيما.
من هنا جاء اختيارنا له ليكون ضيفا على هذه الصفحات من المجلة الثقافية بجريدة الجزيرة، مع أننا لن نزيد أو نضيف اكثر مما قيل عنه وعن تجاربه الكبيرة التي حقق منها أسلوبا اصبح إمضاء له على المستوى العالمي.
لكننا هنا نقدمه إعجابا بتجربته الرائدة وبحضوره العالمي كفنان عربي يستحق التعريف به للأجيال الجديدة ولمن لا يعرفه من القلة في المجتمع التشكيلي السعودي، لقد أسهم في نقل هوية الفن المغربي خاصة والعربي عامة إلى أعين المتلقي عالميا خلال تعلمه الفن ومن ثم تعليمه للأجيال المغاربية الجديدة كأستاذ في معهد الفنون الجميلة بالدار البيضاء لسنوات كثيرة.
تعدد الخامات وتمسك بخط سيره الفني
لا تتوقف أعمال الفنان فريد بلكاهية على التلوين أو التخطيط بل يتجاوزها إلى كل السبل التي يمكن بها التعبير عن الفكرة فقد طوع معدن النحاس بكل ألوانه وسماكته أصفر وأحمر وأبيض، وظفها لتشكيل تكويناته الإبداعية بعد جمعها كوحدات وعناصر بصرية تحمل إيحاءات تجمع الرمزية بالسريالية، ربطها ببيئته شكلا وخامة بمعالجتها بكل ما يستخرجه من ارض وطنه بدء بالنحاس والجلود مرورا بالصبغات الطبيعية من الحناء والصمغ والزعفران، مستلهما فكرة العمل الفني من واقعه الحاضر تنفيذا ومن ماضيه تاريخا وتراثا وفنون شعبية معيدا بذلك الكثير من أصالة فنونه المغاربية دون تأثر بالفنون الغربية التي لا يفصله عنها سوى مسافة قصيرة.
قال عنه عالم الاجتماع الفرنسي جاك لينهارت أن الفنان بلكاهية يعتمد الجسد والعين بذكاء
وقال عنه الشاعر صلاح ستيتية أن فريد بلكاهية فنان مجدد، في مختبره الشخصي والسري ينحت الخصوصية والعالمية، منصت للأصول الإفريقية، للطريقة والرقص الصوفي الذي يخترق فضاءات الصمت والخلاء والبرية المفتوحة على نوتات الكون.
ان الخرائط التي تظهر على دوائر الفنان فريد بلكاهية، وسعة الفضاء الذي اختاره لموضوعاته تذكرنا بالكون وخالقه.
سيرة ومسيرة مليئة بالعطاء
ذكر المؤرخون المغاربة أن الفنان فريد بلكاهية ولد في عام 1934 في مدينة مراكش وقضى جزءاً من طفولته في قرية أمزميز، القريبة من المدينة المغربية التأريخية من أب كانت حرفته صناعة العطور من مواد طبيعية، وحالما قدمت رياح التغيير من أوربا باستخدام المواد الكيميائية في صناعة العطور حتى أفلس أبوه، فانتقل مع عائلته إلى ناحية أولماس ثم إلى أزمور وإلى الجديدة، وفيها أكمل دراسته الابتدائية، ثم عاد إلى مراكش، فأكمل فيها دراسته الثانوية، وفي عام 1953 انتقل إلى مدينة ورزازات ليدرس في القسم، الذي افتتحه الجيش الفرنسي في تلك المنطقة، لدراسة أولاد الجيش الفرنسي، وبسبب علاقات والده الطيبة بالوسط الفرنكوفوني، خاصة مع الفنانين الفرنسيين في زمن الحماية الفرنسية، فقبل بسبب تلك العلاقات في مرسم أوليك تيسلار وهناك تلقى أولى دروسه في الرسم، ومن بوادر نبوغه الفني أنه رسم أولى لوحاته الزيتية، وهو في سن الخامسة عشرة، وكذلك رسم بعد ذلك العديد من البورتريهات الشخصية، وقد سميت تلك الفترة الفنية من حياة الفنان الرائد بمرحلة براغ.
أول معرض للفنان فريد بلكاهية كان في عام 1954، إذ كتبت الكاتبة والناقدة الجمالية المغربية رجاء بن شمسي لتؤكد هذا من خلال كتابتها عن حياة هذا الفنان في بوستر أحد معارضه، فقد قالت أنجز عام 1954 سلسلة لوحات ملتزمة سياسياً على إثر خلع، ونفي محمد الخامس إلى جزيرة مدغشقر، وأقام أول معرض له في فندق المأمونية حيث كان يقيم وينستون تشرشل، وحيث رسم جبال الأطلس المكسوة بالثلج. ثم أشارت إلى أنه غادر عام 1955 المغرب إلى باريس واستقبله هناك الروائي فرانسوا مورياك وأسكنه في المعهد الكاثوليكي، والتحق بمدرسة الفنون الجميلة في مرسم بريانشون، والتقى في المرسم نفسه صديقه الرسام جييلالي غرباوي، متبرماً من النزعة الكلاسيكية، وروتينية مناهج التعليم، ثم غادر المرسم عام 1959، إلى براغ ليكمل تعليمه في الرسم، وكان غير راض على مناهج التعليم في المدرسة، وميله إلى الصورة، وبخاصة الصورة السينمائية وشجعه هذا على التعرف إلى بعض المخرجين السينمائيين، والفنانين مثل آبيل غانس، بيار براسور، كاترين سوفاج، جاك بريل وماريو روسبولي. في ما بعد، وتحديداً عام 1985، صور المخرج راول رويز فيلماً وثائقياً عن فريد بلكاهية بعنوان بايا وتالا أو مرسم فريد بلكاهية.
وبعد ذلك بسنوات غادر بلكاهية إلى أيطاليا ليكمل تعليمه الفني هناك ثم عاد إلى المغرب في السبعينات ليؤسس مع بعض الفنانين المغاربة والايطاليين معهد الفنون الجميلة بالدار البيضاء.