كتبتُ مقالة قريبة عنوانها: «لماذا حرمنا من دراسة الفلسفة؟» يُستحسن الرجوع إليها قبل قراءة هذه السلسلة.
أعتقد أن السؤال البديهي الكبير الذي يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن الفلسفة، أو عند الشروع في دراسة الفلسفة أو تعلّمها أو تعليمها أو تسليط الضوء عليها أو الاهتمام بها هو: ما هي الفلسفة؟ أو عرّف الفلسفة؟ أو ما هو المراد من كلمة (فلسفة) وما هو التفلسف؟!
وقبل الإجابة عن هذا السؤال، أرى أن هناك نقطة هامة يجب البدء بها، ثم الانطلاق في تعريف الفلسفة وما سيتلوه من موضوعات، ألا وهي الإشكالات التي تعيق كثيرًا من الناس أثناء سيرهم نحو الفلسفة.. أو فلنقل: العقبات التي تحول دون فهم الفلسفة وتعلّمها بشكل صحيح سليم، خاصة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، وفي السعودية والخليج تحديدًا. ومن أبرزها -في ظني- اختصاراً:
1- الانطلاق من النقطة الخطأ، وأعني البدء من العمق قبل التأسيس، ومن ذلك الخوض في أقوال مشاهير الفلاسفة ومذاهبهم وتناقضاتهم وصداماتهم، وترديد ذلك على سبيل التعالم والتباهي وفرد العضلات في الساحة الثقافية، قبل التمكن من استيعاب أساسيات الفلسفة، ودون الإلمام بمبادئها وأبجدياتها.
2- تعصّب بعض المهتمين بالفلسفة لفلاسفة معينين من القدماء، والمبالغة في إضفاء القدسية على أقوالهم وأفكارهم ومواقفهم وتوجهاتهم، وإسقاط كثير من ذلك على واقعنا المعاصر، متجاهلين أنهم بشر مثلنا اجتهدوا في محاولة فهم واقعهم في تلك الأزمان، وفي النظر إلى الوجود والحياة وقضاياها المختلفة من منظور خاص بهم يتناسب مع زمانهم وما فيه من وسائل وأدوات.
إن كثيرًا من أطروحات الفلاسفة الأوائل يتناقض ويتصادم ويتصارع مع واقعنا وحياتنا المعاصرة، فلنفكر ولنتأمل حياتنا وقضايانا بطريقتنا الخاصة، وليحاول كلُّ واحد منا أن يتفلسف، إذا كان قادرًا على ذلك، بعد أن يفهم الفلسفة جيدًا؛ وأعني بذلك أن يجتهد الإنسان المؤهل عقليًا في تكوين رؤيته الخاصة الشاملة المترابطة المحيطة بكل ما يحيط به.
3- الخوف منها على المعتقدات الدينية والثوابت الاجتماعية وما شابه ذلك، وهو وهم لا حقيقة له في كثير من الأحيان، حيث إن كثيرًا من المتمسكين بمعتقداتهم وثوابتهم سخّروا تعمقهم في الفلسفة لخدمة تلك القناعات، وإثبات سلامتها وصحتها عقلا ومنطقا.
4- اتخاذ أسلوب الحفظ والتلقين والترديد منهجًا للدراسة، خاصة عند بعض طلاب المدارس والجامعات العربية، الذين يهتمون بالنجاح في مادة الفلسفة المقررة عليهم، وتحقيق درجات عالية فيها للتخرج، دون الالتفات إلى الغايات السامية من تدريسها.
أسلوب التلقين والترديد والتحفيظ الأجوف الأعمى مضر بالطالب في كل المواد، ولذلك يجب أن يُستبدل، ولكن ضرره في الفلسفة أكبر وأشد، واستبداله فيها من باب أولى؛ لأن الفلسفة تعمل على عكسه تماما، أي على تنمية الحس النقدي والمهارات العقلية التأملية التحليلية العميقة الشاملة، التي تصعد بالطالب إلى مرحلة الاستقلال الفكري والشموخ العقلي الحر.
الحقائق المطلقة ليست ملك أحد، بل لم يصل إليها أحد عندي، ولذلك ينبغي على محب الفلسفة ودارسها أن يحاول دائما إيجاد مواقف فكرية خاصة به، وأن يبتعد عن الببغائية العقيمة، المتمثلة في تكرار ما قاله غيره من الناس، مهما بلغوا من المنزلة في الفلسفة أو في غيرها، سواء كانوا من البارزين الأوائل أو من المعاصرين والمتأخرين.
ينبغي - في وجهة نظري - أن يُنظر إلى مواقف مشاهير الفلاسفة والمفكرين باعتبارها نماذج تطبيقية للتفكير الفلسفي، يستأنسُ بها محبُّ الفلسفة، ويسترشد بأساليبها المختلفة، وهو يسير في طريقه إلى الغاية، وهي تكوين فلسفته الخاصة به، وفق الأسس والمبادئ التي لا بد من إتقانها واستيعابها جيدًا، مهما حفظ الإنسان من الأقوال والمصطلحات الفلسفية.
5- يعتقد الكثيرون أن الاهتمام بموضوعات الفلسفة مقصور على فئة معينة من البشر، تملك قدرات خارقة، أو لديها مواهب وإمكانيات سحرية نادرة، وهذا محض وهم لا صحة له في رأيي، رغم اقتناعي بأنها مجال خاص بالأذكياء وحدهم.
بعبارة أخرى أعيد هذه النقطة: الإنسان لم يتميز على غيره من الكائنات الحية المحيطة به إلا بقوة العقل والفكر، وقد نتفق على أن امتلاك نسبة معينة من الذكاء والنباهة شرط للإبداع في التفلسف؛ ولكني أختلف قطعا مع المبالغين في ذلك، أي مع المبالغين في تعقيد الفلسفة وتهويل أمرها، وقصرها على العباقرة ونوابغ البشر.
نعود الآن إلى السؤال البديهي المشار إليه في بداية هذا الموضوع، فما هي الفلسفة، وما المراد منها، وما هو التفلسف؟!
قرأتُ في الكتب الفلسفية سنوات طويلة قبل التحاقي هذه السنة بأحد أقسامها لمواصلة الدراسات العليا، ولكني لم أجد لهذا السؤال طيلة هذه الفترة إجابة واضحة شافية كافية كاملة دقيقة متفقًا عليها عند أهل الاختصاص.
وهذا لا يعيب الفلسفة إطلاقا في نظري، بل هو السر الخفي والسبب الجوهري في تميزها وبريقها ولمعانها عند كثير من طلابها وأساتذتها ومحبيها والمهتمين بها.
وقبل أن نتعمق في صلب هذا؛ أي في صلب موضوع التعريفات العميقة الكثيرة التي تحاول الوصول إلى المدلول الأنسب لكلمة فلسفة.. لا بد قبل ذلك من الإشارة إلى أمور:
1- يُرجع بعض المؤرخين بداية ظهور مصطلح «فلسفة» إلى فيثاغورس الساموسي، حين سأله الحاكم الطاغية في زمانه: من أنت؟ فأجاب: أنا فيلسوف. فيما يرى بعضهم الآخر أن بدايات هذا المصطلح تعود إلى سقراط الذي وصف نفسه بالفيلسوف ليميّز بحب الحكمة نفسه عن السوفسطائيين. ويرى آخرون أن مرجع هذا المصطلح إلى أفلاطون الذي بحث عن الوصف المناسب لسولون وسقراط وأمثالهما، فنعتهم بمحبي الحكمة، أو فلاسفة.
2- المعنى اللغوي أو اللفظي لهذه المفردة:
يكررون دائمًا في كل الأماكن ذات العلاقة قولهم التقليدي الذي يرد في عدة صور ألخصها في التالي: الفلسفة هي محبة الحكمة أو حبها أو عشقها، وهي لفظاً أو اشتقاقاً: كلمة معرّبة مأخوذة من لفظة «فلسفة» في اليونانية، المكونة من كلمتين يونانيتين هما: كلمة «فيلين» أو «فيلو» ومعناها حب أو رغبة؛ وكلمة «صوفيان» أو «سوفيا» ومعناها حكمة.
وكل هذا جميل ورائع؛ ولكن الصورة لن تكتمل إلا بمعرفة المراد من كلمة (حكمة) بدقة متناهية. فما هو المقصود بالحكمة هنا؟ ما هي هذه الحكمة التي يُعرَّفُ الفيلسوف بأنه المحب لها؟!
تتعدد وتتباين إجابات المختصين بالفلسفة في شرح معنى الحكمة الواردة في تعريف الفلسفة، كما هو حالهم -غالبًا- عند تعريف أي كلمة أو مصطلح له علاقة بالفلسفة. واخترت من كلامهم ما أورده الدكتور الليبي رجب بو دبوس، لجماله وبساطته.. تصرفتُ فيه قليلًا، فجاء هكذا: « إذا قلنا الفلسفة هي حب الحكمة، فيمكن النظر إلى الحكمة هنا على أنها الحكمة في السلوك وتعني التدبّر والتعقّل وعدم التسرع وأخذ نتائج السلوك في الاعتبار لتقرير السلوك من عدمه.. والحكمة في مواجهة تصاريف القدر حين لا يستطيع الإنسان منع حدوث ما هو لازم فإن الحكمة تقبّله وعدم الانفعال.. كما تعني الحكمة السلوك وفق المعرفة».
ولكي تتضح الصورة أكثر، يحسن بنا أن نبيّن المقصد من كلمة (السلوك) التي تكررت أعلاه. والخلاصة في ذلك أن المعنى هنا عام دون حدود ولا قيود - أي أنه ليس مقصورًا على جوانب معينة من معاني السلوك، ولا محصوراً في ناحية محددة من النواحي التي تتبادر للأذهان فور الحديث عنه. باختصار: المراد بالسلوك في هذا الموضوع: كل نشاطات الإنسان بلا استثناء، سواء كانت ظاهرة أم غير ظاهرة.
3- أول المتفلسفين باعتبار الفلسفة لذة أو بالنظر إليها كمتعة عقلية غايتها فيها هم اليونان، أما الفلسفة بالمفهوم العام البسيط، فالإنسان فيلسوف بطبعه في منظوري، منذ بداية وجوده، يتأمل الكون والحياة والذات باستمتاع، محاولاً الوصول إلى الفهم الكلي والراحة النفسية، من خلال البحث عن إجابات شافية لكل الأسئلة التي كانت وما زالت تؤرقه منذ الأزل، وخاصة الكبرى منها.
نتوقف هنا، ونواصل التعمّق في دهاليز (معنى الفلسفة) بشكل أوسع في المقالة المقبلة من هذه السلسلة بعون المولى.