Saturday 12/04/2014 Issue 434 السبت 12 ,جمادى الثانية 1435 العدد

التّمويل الأجنبي وتخريب الثّقافة العربية

منذ قرنين من الآن بدأت هناك أعداد كبيرة من المستشرقين تغزو بلادنا. باحثون أثريّون ومستكشفون ورسّامون ودهاة، اجتاحوا أرض الشّرق وحرثوها من أقصاها إلى أقصاها.

أمّا النتيجة المباشرة لأعمال هؤلاء المستشرقين فتمثّلت بالجحافل الجرّارة من جيوش الغرب التي جاءت واحتلّت أرضنا لعشرات السّنين. مثل ظاهرة الاستشراق التي تعرّض لها الوطن العربي فيما مضى نتعرّض اليوم لظاهرة التّمويل الأجنبي التي لم تعد مجرّد ظاهرة بسيطة يمكن السّكوت عنها، فقد استشرت وامتدّت امتدادات عميقة في جميع أشكال الحياة العربية، وباتت تهدّد بنية المجتمعات العربية، وتحوّلها شيئاً فشيئاً إلى بُنية طيّعة تقبل بإملاءات العولمة واشتراطات الشّركات المتعدّدة الجنسيّات، كما تقبل بإملاءات الأعداء المباشرين: الصّهاينة.

يمتدّ عمل منظّمات التّمويل الأجنبي على رقعة واسعة من الأرض العربية: فمن الأردن إلى مصر إلى سوريا إلى لبنان والعراق والمغرب العربي والخليج والسّودان تنتشر أعداد كبيرة من هذه المنظّمات.

المنطقة الأكثر خصوبة لعمل التّمويل الأجنبي تقع في فلسطين المحتلّة، وتحديداً في الضّفّة الغربية وقطاع غزّة، حيث تنشط (دكاكين) هذه المنظّمات بالاتّصال بجميع شرائح الشّعب الفلسطيني، وتعرض خدماتها على هذه الشّرائح من طلبة الجامعات والسّياسيّين إلى المثقّفين والكتّاب.

يدور عمل هذه المؤسّسات الدّوليّة الكثيرة والمتنوّعة حول جملة من الموضوعات المطروحة، مثل قضايا الديمقراطية والمجتمع المدني، تمكين المرأة ومحاربة الإرهاب، التّسامح والحوار بين الأديان، جرائم الشّرف وحقوق الأقلّيّات، وهي كما نرى مواضيع مهمّة في حياتنا وتمسّ جوانب عريضة من هذه الحياة، غير أنّها وهذا هو المهمّ تخضع لشروط الجهات المموِّلة ولوجهة نظرها التي تعبّر في النّهاية عن مصالح خاصّة وبعيدة عن وجهة نظرنا الوطنية القومية. إنّها موضوعات لا تقترحها الدّولة التي نعيش فيها وإنّما هي موضوعات مقتَرَحة من قِبَل جهات أجنبية لها أهدافها وارتباطاتها وأجنداتهاالمشبوهة.

قد يبدو عمل هذه المنظّمات سلساً في كثير من الأحيان، وقد يبدو المال الذي تغدقه نوعاً من الهبات، ولكنّنا لو دقّقنا النّظر مليّاً وربطنا الأمور بعضها بالبعض الآخر لاتّضحت لدينا الصّورة بتفاصيلها كافّة.

ثمّة قطبان يحرّكان المشهد العام في حكاية التّمويل الأجنبي، وهما في نهاية المطاف يندمجان معاً في قطب واحد: القطب الأوّل اقتصاديّ يتّصل بالعولمة وبالحريّة اللازمة لحركة رأس المال، أمّاالقطب الثّاني فسياسي يتّصل بالتّطبيع مع العدوّ الصّهيوني، والقبول به بصفته جزءاً أساسيّاً وحيويّاً من نسيج المنطقة! أمّا كيف يمكن لنا اعتبار هذين القطبين قطباً واحداً في النهاية فذلك متأتٍّ من طبيعة هذه العلاقة الوطيدة إلى درجة الاندماج بين دولة الكيان الصّهيوني وبين الإمبريالية العالمية، أو بين الرّأسمال اليهودي والرّأسمال العالمي.

هناك إحصائية ظهرت أواسط التّسعينيّات ترصد تقاسم الثروات في العالم، فحتى السّتينيّات من القرن الماضي كانت ثروات الأرض موزّعة بين الشّمال الغني والجنوب الفقير بنسبة 60 في المائة للشمال و40 في المائة للجنوب.

في الثّمانينيّات أصبحت هذه الثروات مقسّمة ما بين 75 في المائة للشّمال الأرضي مقابل 25 في المائة للجنوب الأرضي.

في أواسط التّسعينيّات اختلّت المعادلة، فأصبح هناك 350 مليارديراً يهودياً يمتلكون ما نسبته 45 في المائة من ثروة الأرض، أمّا الباقي من هذه الثّروة وهو الـ55 في المائة فيتداوله الشّمال والجنوب الأرضيّان معاً!

في العقود الثلاثة الماضية دخل العالم في حقبة الرّأسمالية المتوحّشة، حيث أخذت هذه الرّأسمالية تستخدم العلم والتّكنولوجيا المتطوّرة وعلى رأسها تكنولوجيا الاتّصال في سبيل تحقيق أهدافها.

من هنا ولدت ظاهرة العولمة كظاهرة تلبّي طموح رأس المال في الهيمنة على الجغرافيا واختراق الحدود وتوفير الأجواء المناسبة لحركة البضائع وتنقّلها بين دول العالم.

في سبيل هذه الأهداف بعيدة المدى كان لا بدّ من تحطيم إطار الدّولة التّقليدي والنّفاذ إلى مواطني هذه الدّولة والتّعامل معهم كرعايا شركة ليس إلاّ.

هكذا فُرِضَت الخصخصة على كثير من البلدان، وتمّ إقالة الدّول من خدمة مواطنيها.

في الوقت نفسه تمّ إطلاق العنان ليد رأس المال بغضّ النّظر عن مصدره وأهدافه ليكون هو الوريث الطبيعي لمشروع الدّولة.

لم تكن الدّولة هي الجدار الوحيد القائم كعائق أمام حركة رأس المال، ولذلك كان لا بدّ من استهداف الحلقات الأصغر، وتحديداً الأسرة العربية بالنّسبة لهذه المنطقة من العالم.

من هنا لبس رأس المال ما يشبه القفّازات النّاعمة لتوجيه الضّربات القاضية وفي الوقت نفسه غير المرئيّة إلى النّواة الصّلبة المتبقية في طريقه وهي الأسرة، وقد تمّ له ذلك عن طريق التّمويل الأجنبي.

تتعدّد مشاغل منظّمات التّمويل الأجنبي، ولكنّها تصبّ في الخانة السّابقة، القاضية بتحطيم بنية الأسرة العربية لتصبح مرتهنة للنّموذج الغربي، وطيّعة أمام تنفيذ الأوامر.

هناك ما يسمّى قضيّة تمكين المرأة مثلاً، هناك قضيّة جرائم الشّرف، هناك حوار الأديان، وهي قضايا الهدف من ورائها تغيير المفاهيم السّائدة لدى هذه الأسرة العربية، ولكن ليس هناك أيّة موضوعات تتّصل بالاحتلال الصّهيوني البشع الذي لم يتسبب بالكارثة للشعب الفلسطيني فقط ولكن بكارثة للأمّة العربية أيضاً.

بالنّسبة للعراق مثلاً نجد هناك حديثاً متّصلاً عن

(الديمقراطية) التي أتى بها الأمريكان ولكنّنا لا نجد من يشير إلى الاحتلال الأمريكي والأهوال التي تسبّب بها هذا الاحتلال.

والآن لو سألنا منظّمات التّمويل الأجنبي عن عدم الخوض في قضيّة الاحتلالات والمصائب التي أتت بها هذه الاحتلالات فإنّها لن تلقي بالاً لأسئلتنا، وفي أحسن الأحوال ستقول بأنّها لا تتدخّل في الشّؤون السّياسيّة!

طبعاً إنّ مثل هذه الإجابة لا تشفي غليل أحد، ولا تنطلي على أحد، خاصّةً أنّ هذه المنظّمات تنشط على طريق تطبيع علاقاتنا مع المحتلّين الصّهاينة، من خلال إقامة الدّورات التدريبية المشتركة للشباب العرب والصهاينة، حيث يتمّ من خلالها التّسليم من قبل هؤلاء الشّباب بفكرة القبول بالاحتلال.

دورات محاربة الإرهاب أيضاً هي دورات سياسية الهدف من ورائها هو التّخلّي عن فكرة المقاومة والإذعان للمخطّط الصهيوني الأمريكي القاضي بتركيع الأمّة العربية والاستيلاء على مقدّراتها. إنّنا لو دقّقنا النّظر فإنّنا نجد باستمرار تلك المظلّة السّياسية التي تغطّي عمل هذه المنظّمات، ومن ذلك مثلاً حريّة الحركة الممنوحة لأعضائها من قِبَل الحكومات العربية وسلطات الاحتلال الصهيوني والأمريكي! إذ لا يجد هؤلاء الأعضاء أيّة عوائق تُذكَر إن قام نفر منهم صهاينة وعرباً بعقد دورة تدريبية لهم في عاصمة عربية أو في مستعمرة صهيونية.

لا يقف عمل مؤسّسات التّمويل الأجنبي عند حدود معيّنة، وإنّما يمتدّ ليشمل الكثير من الحقول الشّائكة والممنوعة في حياتنا العربية.

منظّمات التّمويل الأجنبي تتدخّل أيضاً في التّرويج للأدب الإمبريالي مقابل الأدب الوطني أو القومي العربي، وذلك عبر الاتّصال بدور النّشر العربية وعرض دواوين الشعر والروايات المنوي ترجمتها ومن ثمّ طباعتها وتوزيعها على هذه الدّور مع مبالغ (محترمة) لتكاليف النشر والرّبح.

من الأعمال التي تتبنّاها هذه المنظّمات قضيّة التّبشير الديني، أيّ التّبشير بالدّين المسيحي وغالباً مع ما يتّفق ورؤية المحافظين الجدد في أمريكا وفي العالم، وبسبب حساسيّة الموضوع يلجأ بعض هذه المنظّمات إلى التّخفّي وراء (الأعمال الخيرية) والتّبرّعات.

وعلى الرّغم من الصّدود الذي جوبه به هذا النّوع من الأعمال في البلدان العربية إلاّ أنّ شعوباً كثيرة في أفريقيا غيّرت أديانها.

والآن ليس أدلّ على شبهة ارتباط منظّمات التّمويل الأجنبي بالمراكز الإمبريالية العالمية من تلك الوثيقة التي أعدّتها المخابرات المركزية الأمريكية في 16-12-1998 بشأن التّدخّل في يوغوسلافية السّابقة، التي كان قد ترجمها الباحث د. (إبراهيم علّوش) وجاءت تحت عنوان (التّرويج للديمقراطية في يوغوسلافية).

لقد أُعِدّت الوثيقة قبل عام من دخول قوّات النّاتو الأراضي اليوغوسلافية الذي جرى عام 1999، وكانت تحتوي على المهامّ التي ينبغي لمنظّمات التّمويل الأجنبي القيام بها، في مجال النّقابات، التعليم، القضاء، الإعلام والأحزاب، هذا بالإضافة إلى الأموال اللازمة لهذه المهامّ.

يوسف عبد العزيز - فلسطين Yousef_7aifa@yahoo.com