اللغة الباذخة الفارهة هي ما يميز نص الصديق الفنان محمود تراوري، كان هذا واضحا في كتابة نصه القصصي، قبل أن نذهب معاً بعيداً في التأويل الروائي، فالإشارات المكانية في النص الروائي، تأخذنا مباشرة من العنوان الموسوم بـ(جيران زمزم)، لتفيض بنا على قصيدة شاعرنا الراحل الكبير/ محمد الثبيتي (الرقية المكية) التي تفصل وتوجز المعنى والدلالة:
(وبِمِيمِهَا وبِكَافِهَا وبِهَائِهَا
وغمرتُ نفسي
في أقاصي ليلِهَا
فخرجتُ مبتلاً بفيضِ بَهائهَا
وطَرَقْتُ ساحاتِ النَّوى
حتّى ظَمِئْتُ إلى ثُمالاتِ الهوى
فَسَقَيتُ رُوحي سلسبيلاً مِنْ مَنَابعِ مائِهَا..) فكلنا سنقع فيما وقع فيه الراوي، إذا حوتك بميمها وبكافها وبهائها، وسقيت روحك سلسبيلاً من منابع مائها، فلا مناص إلا أن تتلبس النص، لتطغى اللغة السردية المشعرنة عند محمود تراوي، إذ تأخذنا تلك الإشارات الشعرية من ذا البداية، وتصحبنا بتجلياتها من الصفحات الأولى، ولأن اللغة وحدها لا تشكل فضاء وعالما سردياً، ولكنها تتضافر لتشكلُ مع بعض العناصر، ومكونات النص السردي الضرورية الأخرى حدثاً ومكاناً: (وحين أفيق كما أفاق محمد من تعب القرى (فإذا المدينة فقر) ودخان السماء يتصاعد في السماء.
أبدًا ما كانت نافذة يا محمد، ملأت بها رئتاي، وطفقت أروي... وأذكر جيداً حين ضجت مكة بحريق البنات، تعفرت سماؤها بدخان المراييل، تضوع برائحة الشواء، وأشعل الأفق بخوراً. ص12).
تلك الإحالات هي في جوهرها إحالات شعرية، لكن الكاتب البارع الفنان بسرعة، جعلت محمود يستدرك ليروي حدثاً، ويضيء في إشعاع اللغة، وكل شيء سيروى فيه طعم زمزم، وتبرز سطوة المكان وعمقه التاريخي، يركض هاجر بين جبلين، ويرصدُ روح تهيم على الرابية وفي المروتين، وهنا - يخطر ببالي أسئلة عديدة، وقد تناقشنا كثيرا مع الأصدقاء الذين يكتبون الرواية من سكان مكة ومحمود أحدهم، والسؤال مطروح، من سيغوص في الجذر التاريخي والأسطوري والديني، ليوشح لنا رواية كـ(جيران زمزم) بهذا المعطى الإنساني، ومحمود حتماً رهان مهم، ولست في مجال قتل دهشتي بالنص قبل الأوان..؟!
ولنتأمل في الحوار التالي، كيف يتمكن الكاتب المدرب على انتزع جمالياته، وفتح النص على نوافذ من الوعي، وتوظيف الكلام المحكي والأساطير الشعبية، وقد مهد لنا بهاجس التلفون الآتي من (01) وظل يؤرقه في أحلامه حتى قال خال قديم:
(بيعوها أو سووها مخططات، هاتوا فلوسها نسوي بيها شاليهات في أبحر بلا في شكلهم)، في حين كانت زوجُه تراقصُ أختي الصغيرة:
(حدارجة مدارجة
من كل عين سارجة
فاطمة بنت النبي
خذي كتابك وانزلي
على شجرة النبي
فيها رطب فيها..)
وظل خالي يصرخُ معنفاً الأهزوجة:
- (اسكتي يا حرمة الله يهد حيلك). ص25
نهر من السلالات يفيض بها وادي إبراهيم منذ سحيق الزمن، لينصهروا مشمولين بالانتماء والهوية، ليبدأ الروي في تشريع المشروع، وكشف اللحم وتقشير الحلم الطقوسي، والحق أن محمود الذي بيني وبينه شفافية كما بيني وبين روحي، لم يترك لي إلى حد الآن لكي أستبين شخصية بارزة في النص، وقد ظللت اللغة بعالمها الطقوسي المكاني، توحي أن (جيران زمزم) وحكاياتهم الشعبية، هم أبطال الرواية التي تتجلي بلغة آسرة، لتكشف لنا عن عالم من الماورائيات.
لكن الراوي لا يمهلنا إذا نغوص معه، حينما يخرج كشافاً، وراح يغرسه في الأوراق، الأوراق التي كان يتأبطها يوم شوت النار البنات، وكأن الحريق حريق البنات، كما حرائق المباخر، وكل حريق طقوسي، وتاريخي أيضاً من محرضات السرد، ليتلو علينا رسالة لأبي عبد الله محمد بن أبي الخصال، هادراً كسيل يروي من نبع معرفته في حلقات الحرم، ليكتب لنا مقامة:
(قّرب السراج يا واد.. انتبه لزيته.
تبّسم بتثاقل، وقال (خططت والنوم مغازل، والقرّ نازل، والريح تلعب بالسراج، وتصول عليه صولة الحجاج، فطوراً تبرزه سناناً، وتحركه لساناً، وآونة تطوله جنابة، وأخرى تنشره ذؤابة، وتارة تقيمه إبرة لهب، وتعطف برة ذهب). ص37
محمود تراوري الفنان الذي يدرك معنى السؤال الحائر من زمان، يستجيب لكتابة رواية مكية، وقراءة الجذر التاريخي المكاني والإنساني والطقوسي، والرواية بطبعها فن شمولي عن مكة المكرمة، والرواية بطبعها بنت المدينة وفنٌ حضاري، ويدرك الجميع أن بواكير الحكي الروائي في بلادنا بدأت من مدننا المقدسة، ولا ننسى أن إلى جانب محمود من الروائيين المعاصرين الكبيرة رجاء عالم والأصدقاء عبدالله التعزي وصلاح القرشي وبالذات روايته الأخيرة وادي إبراهيم بما لها من حمولة دلالية طقوسية، وكل منهم يحاول قراءة ملمح من حاضر أو تاريخ أم القرى، أما أنا فمتى. ما أدركت أن ذائقتي القرائية، قد أصبحت في موقع الناقد لا للقارئ الباحث عن المتعة، فسأتوقف لأعود للرواية الجميلة التي بين أيدنا مرة أخرى في الحلقة المقبلة.
يتبع