(1)
أصلٌ في الدولة: (أنّ لها مَنْ يُمثّلُها)، بينما أصلٌ في الدين: (أنّ لا أحداً يمثّله).
طبيعةُ الدولة أنّها ملكُ مواطنيها وأنّها ذات سلطة، والفتنة غياب السلطة وتحويلها مشاعٌ، وطبيعةُ الدين أنّه ملكٌ لله، والفتنةُ أن يكون ملك الإنسان.
(2)
ولعلّ الشعار (الدين لله، الوطن للجميع) الذي ينسب إلى سعد باشا زغلول في دعوته المصريين لمقاومة الاحتلال الإنجليزي بغض النظر عن العرق، الدين، ومفهوم الدين لله مفهوماً إسلاميّاً نصّ عليه المتن القرآني، كما أن دول الرعيل الأوّل لم تكن مقصورة على عرق ودين دون آخر، فقد ضمّت أعراقاً عديدة، ولم تطرد من مكوّناتها أهل الكتاب، وشيءٌ من هذا يمكن أن نُعدّه مرتكزاً تاريخيّاً ونواة للدولة المدنيّة المعاصرة القائمة على جميع مكوناتها، فهو ميثاقٌ جامعٌ لمكوّنات الدولة من أديان ومذاهب وأعراق متعدّدة، فهو جامعٌ من التفرقة، ومانعٌ من اقتحام رجال الدين إلى السياسة والسيطرة على الوطن أو بعضه، ورادعٌ من استغلال السياسيّين للدين؛ فانظرْ في دول الجيران لترى ماذا فعل بها غياب هذا الميثاق الجامع: فهل كان السودان ليصل إلى التقسيم إن كانت ثقافة (الدين لله) جزءاً من السلطة العسكرية - الدينية والتي أرادت أن تختزل الوطن في فصيلها، وكذا حال مخاطر التقسيم في العديد من دول المنطقة، نظراً لغياب الميثاق الوطني المعقود بين مكوّنات الدولة كلّها على أساس مصالح وجود الكيان وأفراده دون إقصاء لعرقٍ، أو دينٍ أو مذهبٍ.
(3)
أولى دلالات (الدين لله) أنّه خارج قوانين الملكية الماديّة الإنسانيّة، أنه خارج ما يرتبط بالملكيّة أو ينتج عنها من صراعات ونزاعات بين الأفراد والكيانات على الرغم من تزوير أسباب الحروب والنزاعات على أنّها دينيّة بينما هي في أصلها صراع على ما يُملْك: (حدود، مصالح، منافذ، أراض، و غيرها)، فلا ملكية لأحد بين الناس على الدين أو على بعض الدين، وأيّما شيء ليس لأحدٍ ملكيّة عليه فلا يصحّ الخلاف عليه، وهذا أصل في حرية المعتقد: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}، لأنّ الاعتقاد فرديّة، والتوهّم بملكيّة الدين والصراع عليه دون بقيّة الأديان، هو الذي يستوجب العمل على إزالته؛ لذلك فإنّ كلّ من يتذرّع بالدين ليصارع الآخر إنّما يصارعه على الدنيا، فإن كان هدفه الدين، فالدين لله، وليس الله بحاجة لأحد حتى يدافع عمّا هو ملك له وحده؛ هكذا نفهم سياسة: (أنا ربّ الإبل، وللبيت ربّ يحميه)، تبعاً لما ينسبه التاريخ الديني العربي إلى عبد المطلب جدّ النبي العربي عليه السلام، هكذا نفهم دفاعه عن الإبل لأنّ الإبل ملكيّة؛ فما من أحدٍ يملك الدين أو يمثّله حتّى يفرضَ سلطانه وقوّته وتصوّراته على الآخرين، وأصل الفتنة في تملّك الدين والتوهّم أنّه ملكيّة لطائفة دون أخرى، ومصادرته وتأميمه.. ولذلك فلا أحد يملك حق تمثيله إلا من صاحب الملكيّة، فهل نزل الوحي على هؤلاء الأدعياء؟!
أمّا دلالة الوطن للجميع: ذلك أنّ الوطن محلّ الدولة الماديّ، وهما: (الدولة والوطن) ملكُ الجميع، مِلْكُ مكوّناتهما سكّاناً وسلطةً، هكذا يصحّ الخلاف والاختلاف لأنّه أصلٌ في الحفاظ على الملكيّة، وتصوّرات حمايتها، لطالما يقع على الجميع: (ممثِّلين، وممثَّلين) حماية الدولة، لأنّها ملكهم.. ولأنّ الدولة للجميع عبر مؤسّساتها ومن يمثّلونها، فهي ملكيّة تخصّ جميع المواطنين، ومن هذا المنطلق نفهم معنى التمثيل / التفويض/ البيعة / العقد الاجتماعي؛ فمَن يملك شيئاً يحقّ له الصراع من أجمل حمايته، ويحق له توكيل وتفويض من يشاء ليمثّله، هكذا يكون لرجال السياسة الممثّلين شرعية، في تمثيلهم أصحاب الملكية / العقد / الدولة، وهذا أصلٌ واقعيٌّ في مفهوم الشرعيّة.
(4)
وأنتَ أيّها المسحور بهذه الحركات، ألم تسأل نفسك: من أعطاهم هذا التفويض، من فوّضهم أن يكونوا ناطقين باسم الدين؟ وإيّاك الظنّ أنّك تملك حقّ تفويضهم أن يكون ممثّلين عنك، هذا وهمٌ فاحذره، فليس لك وليس لأحد أن يفوّض أحداً بتمثيل الدين.
(5)
زمن النبوءات انتهى؛ هل يدركُ الداعيةُ أنّ في بضاعته المخلوطة ما يجرح أصلاً في الديانة الإسلاميّة يختصّ بختم النبوّة!؟ هل يدرك تابع الداعية: أنّ التكليفَ محلّه استقلال الفرد وحريّته.
إنّ تأويل - إنْ صحّ - ما ينسب إلى النبي العربي عليه السلام: (العلماء ورثة الأنبياء) شأنه في العلاقة بين النبوّة والعلم، وفي إظهار قيمة العلم: علم الخلق، الإنسان، الأرض، السموات، فالمتن يحثّ أتباعه على العلم والبحث في الأرض والكون والإنسان: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}، وهو فعلُ أمرٍ يرفع عن التابع عبء التقليد الأعمى لمنقولات السلف أيّاً كانت علميّة، ويشرّع ربط العلم بالتجربة الإنسانية والبحث.. وأمّا النعت الذي جاء به ابن عساكر الدمشقي، وذهبت مقولة: (لحوم العلماء مسمومة)، فالأصلُ أنّ لحوم الناس جميعة ميّتة ومسمومة في النميمة والغيبة والاتهام والاشتباه والطعن إلاّ بقانون وعبر قنوات رسميّة، وهذا أصل ديني وأخلاقي وحضاري، أمّا أن يُشاع القول بحصانة أيّ عالمٍ وفي أيّ مجال من العلوم من النقد والشكّ، فتلك مسألة في غاية الخطورة يجب الالتفات لها ومعالجتها تعليمياً ومواجهتها إعلاميّاً، فهي مرتبة فوق الإنسان.
زمن النبوءات انتهى، والدعوة إلى حرية الدين، انتهت بالإيمان أنّ الدين ملكية لله، فهو يحظر على أيّ أحد تمثيل الدين من بعد النبي عليه السلام، لأنّ تمثيل الدين يعني - ضمنيّاً - استمرار الوظيفة النبويّة في شخصيّة الداعية أو الهادية، وهو ما جاء الإسلام على محاربته لما فيه من تفريق الناس واستعبادهم كما فعلت طبقات الكهانة في الأزمنة الغابرة.
(6)
إنّ أيّ دولة مدنية ذات ميثاق وطنيّ معقود على مصالح مكوّناتها بعيداً عن العرق والدين فإنّها تتوافق مع ثقافة: (الدين لله، الوطن للجميع) وتشرّعها، فبدون تشريع حقوق الاعتقاد والتعدّدية، وعدم ربط المواطنة بالاعتقاد فإنّها تبقى شعارًا لا يفضي إلى ثقافة مؤثّرة، وهي ثقافة سرعان ما تنتشر بين الناس إن تمّ تشريع البنود الدستورية الكفيلة بالمواطنة على أسس وطنيّة وتنفيذ هذه البنود وتجريم من يعبث بها، فهي تعصم الناس من فتنة ملكية الدين التي تتلبّس بعضهم، وتعصمهم من التفتيش في معتقدات الآخرين، فما شأنكَ بمعتقدات غيرك.. {أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى}، طالما لم تضرّك في حقوقك العقدية، وملكيّاتك.
سبق أن ذكرتُ أنّ الدولة المدنية ليست نقيضاً للدين، فالدين جزءٌ أساس تابع لمكوّنات أفراد المدينة، وفي الاصطلاح السياسي: أنّ الدولة العسكرية هي نقيض الدولة المدنية، لكنّ الدولة الحديثة وارتباطاتها الخارجيّة يجعلها ذات طبيعة علمانيّة بقوة الضرورة وقانون الواقع، أيّاً كان نظامها الداخلي، فإنّ العلاقات والقوانين الدولية (تجبرها) على ذلك، وإلاّ فإنّ مصيرها العزلة والانزواء، فهذه إيران تقعد على طاولة مع (الشيطان الأكبر) على حدّ تعبيرها منذ الثورة الخمينيّة لأجل التفاوض على مصالحها الداخلية والخارجيّة، لماذا؟ لأنّ مفهوم القوّة والواقع هما اللذان يحرّكان بوصلة المصالح وليس التقوى والوجدان، وهما القادران على تحقيق المصالح؛ والحال: أنّ دساتير الدول العربيّة ما زالت تخلط بين الإنسان والكيان، فتنصّ على دين الدولة وعرق الدولة أيضاً، كأنّ الدولة شخصية إنسانيّة مستقلة يجري عليها ما يجري على الفرد من تكليف ومسؤوليات وواجبات، والفرق جوهريّ وكبيرٌ بين قولنا: (دين الدولة / عرق الدولة)، وبين قولنا: (دين / أديان مواطنيها / أعراق مواطنيها).
(7)
لماذا الدولة قادرة فعليّاً على حامية الدين والدنيا؟.. ذلك أنّ للدولة من يمثّلها شرعاً مدنيّاً، وهؤلاء الممثّلون السياسيّون يدركون جيّداً، بل يخضعون لقوانين ماديّة - دنيويّة: (الصواب، الخطأ، النسبيّة، الإهمال، السهو،..) ويخضعون في أعمالهم للمحاسبة والمراقبة وحقّ النقد والتعديل والإلغاء والإضافة، بينما ليس من وظائف الدين أن يكون حامياً للدولة ذلك لأنّ الدين ليس له ممثّلون ولا ينبغي، فالدين فوق الملكيّة، ومَنْ يدّعي تمثيله للدين يريد أن يكتسب قدسيّة لا تقدر على حماية الدولة والدنيا، ذلك أنّه يريد أن يكون دائماً على صواب والآخرين على خطأ، ويريد لمفهوم الصواب عنده أن يصل إلى مرتبة الحقيقة والحق، ويريد لمفهوم الخطأ عند الآخرين أن يكون على مرتبة الضلال والإثم، وهو ما يجعل أيّ دولة تقوم على أساس ديني محض، تكون عُرضة للانهيار مباشرة إذا لم تمارس السياسة وفقاً لقوانين مدنية تحمي الدولة والدنيا والدين أيضاً، هكذا يكون الدين شعاراً، وتمرّ ممارسات الحكم الدنيوي والفئوي تحت غطائه والتستّر به، وفي الحالتين فإنّ مآل هكذا أشكال للعلاقة السياسية - الدينية مع مكوّنات الدولة آيلة للسقوط.