تستهدف الأنثربولوجيا الثقافية والاجتماعية النصوص السردية بالدراسة والاهتمام ، إذ مع الوقوف على معنى الأنثربولوجيا وهي دراسة العادات والتقاليد للمجتمعات خاصة المجتمعات التقليدية، نلحظ كم يفيد المختصين بهذا الفرع العلمي من علماء اجتماع وأنثربولوجيين من دراسة النصوص السردية للشعوب، بعدما أفاد أسلافهم من التعرف على عادات الشعوب ودراستها عبر الرحلات الاستكشافية والحروب والفتوحات. وربما من هنا جاءت أهمية النقد الثقافي الذي يشهد اهتمام بعض نقادنا المحليين كاهتمام الدكتور عبد الله الغذامي برواية «بنات الرياض»، وقت صدورها معللا اهتمامه بأنه من منطلق النقد الثقافي.
وفي رواية «غراميات شارع الأعشى»، لبدرية البشر مثلا يمكن أن يخرج القارئ بدرجة ما وعالم الاجتماع والأنثربولوجي بدرجة أعلى بتصور وإن كان نسبيا لتصميم دور وطرق أحد أحياء مدينة الرياض ما قبل الطفرة، وبعض أوجه تصميم سوقها المركزي ونمط عيش أهلها وعاداتهم وقيمهم الاجتماعية والثقافية والدينية والاستهلاكية، وما واجههم بعد ذلك من تغيرات على المستوى المعيشي والاجتماعي بعد الانتقال من مساكن شعبية إلى الفلل، وكذلك ما حدث من تغيير قسري لبعض العادات نتيجة خضوعها لضغوطات ومتطلبات الجيل الجديد في التزاوج والاندماج بالعربي المقيم.
وقد أكد الدكتور عياد أبلال في كتابه» أنثربولوجيا الأدب: دراسة أنثربولوجية للسرد العربي»، أن المنهج الأنثربولوجي التأويلي الرمزي قادر على استنطاق مختلف التجليات الثقافية والاجتماعية التي تحفل الكتابات الأدبية السردية بها، خاصة في الوطن العربي، حيث يؤكد أن التراكم لا يزال في بدايته، إذ إن الكاتب السردي - مثلما هي الحال بالنسبة إلى القارئ نفسه - وهو يكتب رواية أو قصة يتموقع كأنثربولوجي في انتقاله من نص الثقافة إلى ثقافة النص، بمعنى من المجتمع باعتباره النص الأصلي إلى النص الروائي أو القصصي باعتباره أثرًا إبداعيًّا وانتقاءً وتركيبًا تخييليين لهذا النص المرجعي الذي يشكل مصدر المعطيات لكل من الكاتب الأدبي والباحث الأنثربولوجي».
وقد انجذب أبلال بحسب تعبيره للكثير من السرديات العربية والغربية نتيجة ارتباطها بالأنثربولوجيا الثقافية والاجتماعية بحكم تخصصه في علم الاجتماع، وكذلك لممارسته الكتابة والنشر الاجتماعي والنقد الأنثربولوجي.
وقد علل الكثير من النقاد اهتمام القارئ العربي وكذلك الغربي بالمنتج الروائي السعودي باعتباره كاشفا عن ملامح مجتمع طالما بدت للغير غير واضحة تحيطها هالة غموض تجعلها مثيرة للفضول نتيجة تحفظ المجتمع وتكتمه في الإعلان عن خصوصياته وما يواجهه من إشكاليات.
وهذا ما جعل رغبة أبلال تتضاعف لمقاربة النصوص السردية العربية المعاصرة بخلفيته الأنثربولوجية، على أمل أن يسهم الاشتغال في مساءلة ما تطرحه النصوص السردية المدروسة من قضايا وإشكاليات، يطمح أن تؤسس لمقاربة نقدية جديدة تغني المشهد النقدي القصصي والروائي العربي.
ويفترض الدكتور أبلال أن «الخطاب الأنثروبولوجي كما السردي الأدبي عالمان أو خطابان مبنيان ينطلقان من الواقع نفسه الذي يشكل بالنسبة إليهما العالم المعطى، وأن الأحداث والظواهر الأنثربوثقافية والاجتماعية التي تشكل في إطار تحولاتها وقوة تحكمها في مسارات الأفراد والجماعات صُلب إشكالية الأنثربولوجيا هي السياق خارج النصي في الكتابة الأدبية السردية.
كما يفترض أن الاختلاف والفرق الممكن الوقوف عليهما ما بين الخطابين بخصوص السرد والوصف كأهم مميزات الخطابين هو فرق ناتج عن طبيعة وأهداف التوظيف والاستعمال. ويفترض أيضاً أن الكتابة الأنثربولوجية هي كتابة تناصية، حوارية، تخييلية مثلما هي الحال بالنسبة للكتابة السردية الأدبية (القصة القصيرة والرواية). مفترضا أن المؤلف الأدبي هو باحث أنثربولوجي مكتبي، وأن القصة أو الرواية يمكن أن يشكلا حقلاً أنثربولوجيًّا غنيًّا بالمعطيات الثقافية والاجتماعية ذات الحضور الرمزي، مثلما يفترض بالضرورة أن القارئ يتموقع في وضعية الأنثربولوجي وهو يقرأ حقله الميداني مستخلصًا مختلف الرموز المشكلة للنص السردي في علاقتها التأويلية الرمزية بالثقافة باعتبارها النص الأصلي.
ومن المعروف أن الأنثربولوجيا علم حديث قياسا بالعلوم الأخرى مثل الفلسفة، وقد ركزت في البداية على دراسة الشعوب البدائية ممن لا تتقن القراءة والكتابة، وكان هذا العلم وسيلة لدراسة الشعوب للوقوف على مدى إمكانية اجتياحها والسيطرة على خيراتها وإن تم تعليلها بمحاولة المثاقفة وتطوير الشعوب البدائية ، غير أن الأمر اختلف فيما بعد وحدث توسع في هذا العلم امتد ليشمل كل ما هو مختلف ومغاير من عادات الشعوب البدائية والمتقدمة أيضاً ومن بينها شعوب هؤلاء العلماء الدارسون.
«وتأخذ الأنثربولوجيا الثقافية والاجتماعية على عاتقها دراسة خصوصيات الإنسان الأنثربو - اجتماعية والثقافية في كل زمان ومكان، وتتميَّز الأنثربولوجيا بالنظرة الشمولية أي المنهج الكلي التكاملي الذي يهدف إلى تحديد جميع عناصر الثقافة في مجتمع ما بُغيَة وصف تحليلي، وتفسير طريقة الحياة التي يعيشها أفراد تلك الجماعة، القبيلة أو القرية من خلال كل ما يصنعه الإنسان من عناصر المادة مثل: اللباس والمباني وطبيعة تصميم هندستها والآلات والأدوات التي يصنعها ويستعملها، ومن خلال فهم كل أشكال وخطابات التواصل الثقافية، وتطبيقاتها الاجتماعية، من عادات وتقاليد، ونُظم القَرابة والزواج، وأنساق التداول الاقتصادي، والمعتقدات والطقوس الدِينية، وتصورات وتمثلات الأهالي حول العالم والأشياء من خلال الغوص في اللاشعور الجمعي. هكذا إذن برزت الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية، وأخيرًا التأويلية الرمزية باعتبارها المدرسة التي حققت تلاقحًا كبيرًا بين مختلف التخصصات الاجتماعية من جهة، والأدب من جهة أخرى».
والسؤال الذي يطرح نفسه على ضوء ما سبق هل جميع كتابنا بخاصة الروائيين يحملون قدرا من الشفافية وينحون منحى محايدا في تصوير ونقل ومقاربة الحياة الثقافية والاجتماعية المحلية بما فيها من مثالب طبيعية تشهدها كل المجتمعات، وكذلك بما تحوي من جماليات وقيم وعادات عربية أصيلة وتاريخ تراثي حافل وجدير بالتأمل كما تنحو أعمال الروائية رجاء عالم أم غالبيتهم للأسف يبدو في سردياته متحاملا وناقما على مجتمعه ومدينا لقيمه وارثه ومنحازا لقيم غربية بشكل سافر، من خلال تجريحه في قيم بيئته المحلية في عمله السردي وكأن هذا العمل لا يعدو أن يكون مساحة لتقيؤ كل ما هو سلبي من وجهة نظر السارد وليس شخوصه الذين يخرسهم عادة لينطق هو!