لماذا تتراجع الثقافة في الوطن العربي، أو في العالم الذي يكتب ويقرأ باللغة العربية؟
الأسباب بالتأكيد كثيرة، منها غياب حرية التعبير المسؤولة، ومنها غياب الاستقرار، ومنها غياب وعي التلقي، بسبب غياب عموم الوعي لدى الناس، ومنها انتشار وسائل الإعلام ذات الطابع التجاري والاستهلاكي. ومنها غياب النقد المنهجي وغياب مفهوم النقد الأكاديمي الذي يسهم في بناء الثقافة وترسيخ قيم الجمال الفنية والفكرية.
كتابات كثيرة «تطفو» على سطح بحر الثقافة وبحر الحياة تدفع بها مياه البحر وترميها على سواحل البحار والأنهار حيث النفايات، إذ لا يمكنني أن أتصور روائياً مبدعاً أو شاعراً مرهفاً أو سينمائياً ملهماً، ثم أقرأ عن أعمالهم كتابات سهلة غير مسؤولة تشطب أحلاماً وصياغات وهيام في بحور الشعر لا شيء سوى أن الكاتب جاهل أو أحمق أو روائي أخفق في كتابة قصة أو مخرج سينمائي أو مسرحي فشل في إنتاج نص واحد، فتحول إلى ناقد، فيكتب عن ذلك المبدع ما يشاء أي كلام بدون شعور بالمسؤولية فيتركه حزينا، وقد يقرر الانزواء ويرحل عن هذه الدنيا دون أن يدري به أحد. كثيرون غادرونا ولم يعرف أحد حجم طاقاتهم المخزونة التي هدرت هباء. واليوم مبدعون يختفون عن المشهد الثقافي وتنسى حتى أسماءهم لأننا أمة بدون ذاكرة بات يحكمها النقاد والحساد. وهو أمر مؤسف حقا.
لقد قرأت بعض النصوص النقدية وبعضها مطبوع في مؤلفات عن مناهج نقدية مفهومة خطأ ومقروءة خطأ ومكتوبة خطأ. فعرفت لماذا ينزوي بعض المبدعين.
حتى تصبح ناقداً لعمل روائي ينبغي أن تعرف أسس البناء الدرامية وأسس تحليل الشخصية وأسس بنائها. حتى تصبح ناقداً ينبغي أن تعرف مفهوم اللغة في الحوار ومتى يكون الحوار وسيلة اتصال ومتى يكون جزءا من بناء الشخصية ومستواها الاجتماعي والثقافي. حتى تصبح ناقدأً عليك أن تفهم أسس العملية الإبداعية سواء كانت روائية، شعرية، قصصية، مسرحية، سينمائية. حتى تصبح ناقدا عليك أن تفهم وتعرف ما لا يعرفه مبدعو الأدب والفن.. كيف يمكن الكتابة عن عمل روائي مرهف ومتقن وصاحب القلم النقدي لا يفقه مفردات لغة التعبير الأدبية والفنية، لأن الناقد مكلف بأن يملأ مكانا في الصحيفة أو فسحة في قناة فضائية دون أن يشعر مدى مسؤولية هذه الفسحة الثقافية والإعلامية، فيكتب مستعجلا مقالته المربكة والمرتبكة أو الجاهلة، فيقلق نومة المبدع ويخدع المتلقي البسيط بدلا من أن يدله على درب المعرفة والتأمل.
لا يوجد في العالم تمثال لناقد.. أهو محض مصادفة؟
هذا في بلدان بزغ فيها كتاب ونقاد عمالقة ومبدعون كبار أضفوا من كتاباتهم على الأعمال الأدبية والفنية مفاهيم ومضامين وقراءات لأحلام مبدعيها في شتى أدوات التعبير الثقافية، فكيف ونحن في بلدان غزاها تتر الثقافة وتتر المعرفة وصرنا نسبح في فضاء الصورة الملوثة عبر الأقمار الاصطناعية.
لقد عرفت كتاب رواية وكتاب قصة وعرفت مبدعي سينما تنحوا جانباً وصمتوا وصاروا اليوم يرفضون اللقاءات المتلفزة والمقابلات الصحفية، وجلس بعضهم يدون مذكراته بأصابع مرتجفة. والدموع الحيرى بأجفانهم تكاد تسترخي فترتد وأنت تعرج نحو ماض ثقافي جميل ثري في حياتهم الإبداعية وهم لا يزالون في دائرة القدرة على الإبداع ولم يتقاعدوا بعد في حسابات العمر.
لم يعد الكثيرون يرغبون في يصبحوا اليوم في دائرة الضوء وهم من المبدعين الحقيقيين، والعالم ممكن أن ينساهم حيث يزدحم فضاء الأدب والفن بالبرامج المسطحة التي تستلب عقل وعاطفة المشاهد، سيما ذلك المشاهد الذي لم يتسلح بمنهج العلم في دراسته.
بالتأكيد هناك نقاد كبار وقدرات أكاديمية ممتازة لكنها ضاعت وسط هياج ما يسمى النقد في الصحف المتكاثرة والفضائيات التي تتوالد كل يوم.
زرت أحد المبدعين في منزله وقد قرر التوقف عن المشاركة وليس التوقف عن الإبداع، سألته لماذا هذا الصمت.. سوف ينساك هذا العالم. أجابني بكلمات قليلة.
قال: فضلت الانزواء حتى لا أصبح متهما بالإبداع!