يعود التاريخ الروسي إلى ما قبل القرن الخامس الميلادي، حيث بدأ ذلك التاريخ بهجرات قامت بها قبائل سلافية لتستقر في القرن الثامن في شمال شرق بحر البلطيق مشكّلة أول دولة روسية. لم يمضِ وقت طويل حتى وجد الروس أنفسهم على تماس مباشر مع الإسلام والمسلمين. كان ذلك في القرن التاسع الميلادي. بالمناسبة ومن طرائف الأمور وغرائبها أن الإسلام قد دخل إلى روسيا قبل المسيحية بقرن كامل، حيث تدل الوثائق التاريخية أن الإسلام دخل إلى روسيا في القرن التاسع الميلادي بينما لم تدخل النصرانية تلك الدولة إلا في القرن العاشر. هذا الاحتكاك القديم بين المسلمين والروس يدل على عمق العلاقة بينهم وهذا ما يفسر وجود مخطوطات عربية كثيرة في المتاحف الروسية.
انتشرت المخطوطات العربية في مختلف أصقاع الأرض ومن بينها الاتحاد السوفيتي السابق الذي شغل المرتبة الرابعة في العالم بعد تركيا ومصر وإيران بعدد المخطوطات العربية الموجودة لديه. تبين الإحصاءات أن عدد المخطوطات العربية قد وصل في الاتحاد السوفيتي السابق إلى ما يربو عن أربعة وأربعين ألف مجلدًا. يمكن تعداد أكبر المراكز التي تحوي بين ضفتيها آلاف من المخطوطات العربية في دول الاتحاد السوفيتي السابق: مؤسسات الاستشراق، ودور المخطوطات في بطرسبرغ وموسكو والقوقاز وقازان في روسيا وطشقند في أوزبكستان وباكو عاصمة أزربيجان، ودوشنبيه في طاجكستان وتبليسي عاصمة جورجيا ويريفان عاصمة أرمينيا ومدن أخرى. وفي مكتبات ومعاهد بطرسبرغ تمتلئ الخزائن العتيقة بكنوز الثقافة العربية، حيث تتلهف الأيادي لتلمسها بغية غرف ما بداخلها من معانٍ وقيم فريدة عكست ثقافة العرب وتنوع إسهاماتهم في الطب والفلسفة والعلوم واللغة والجغرافيا والتاريخ وعلوم المنطق والفلك، ومن ذلك
أعمال ابن سينا والفارابي والرازي والبخاري وأبو حامد الغزالي والشيرازي وحمزة بن الحسن الأصبهاني وعمرو بن بحر الجاحظ والسمرقندي. وتحتل أعمال الذبياني والمتنبي والفيروزآبادي وأبو الفرج علي الأصفهاني والقاسم بن علي الحريري وعبد الرحمن بن خلدون مكانة خاصة بين المخطوطات العربية في مكتبات ومعاهد روسيا.
وتثير المخطوطات العربية المتعلقة بعلم الفلك اهتمامًا خاصًا لدى الباحثين الروس، ومن أهم المخطوطات في هذا المجال كتب عالم الفلك الفارسي (كوشيار بن لبّان) باللغة العربية كعادة كافة الكتّاب المسلمين في ذلك الزمان، واسم المخطوطة: مدخل إلى صناعة أحكام النجوم، وقد كتبت عام 1130ميلادية، حيث عرض فيها الكاتب أسس علم الفلك.
وإلى جانب وجود نسخ عديدة للقرآن نجد اهتماماً خاصاً بالمخطوطات الأدبية الإسلامية، ناهيك عن مخطوطة كتاب البستان في نزهات الندمان التي تتضمن حكماً وأمثالاً شعبية.
لو لم يكن هناك اهتمام بالمخطوطات العربية لما لقينا هذا الكم الهائل لها في المتاحف ودور الاستشراق والمكتبات في كل أرجاء الاتحاد السوفيتي السابق وفي روسيا الحالية. إن سبب الاهتمام هذا لا يتوقف على أن هذه المخطوطات هي عربية، بل يتعدى ذلك إلى أنها ترتبط بالعالم الإسلامي أيضاً، وخصوصاً أن روسيا تلاقت وتجاورت مع المسلمين ودولهم على مر السنين، في حدودها الجنوبية بدءاً من آسيا الوسطى والقوقاز ومرورًا بإيران وانتهاء بتركيا. كما يمكننا أن نصادف في تلك البلدان مخطوطات عربية بعناوين متنوّعة وعديدة تشمل اختراعات العرب ومساهماتهم في مختلف جوانب العلوم اللغوية والفلسفية والرياضيات والطب، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: نبذة من تاريخ العرب، ونبذة من كتب الطب والفلسفة، والمجلد الأول لكتاب المواعظ والاعتبار للمقريزي، ومنتجات من لزوم ما يلزم لأبي العلاء المعري، والمقامات للقاسم بن علي الحريري، وكتاب المفضل [المفصل] في النحو للزمخشري، وأجزاء من كتاب الأغاني لأبي الفرج على الأصفهاني، والمجلد الأخير من الكامل في التاريخ لابن الأثير، وكتاب قصص الأنبياء، والجزء الأول من السيرة النبوية لعلي بن برهان الدين الحلبي، وروضة العلماء ونزهة الفضلاء للبخاري. كما نعثر أيضاً على الرسالة الموسومة بحق اليمين في معرفة رب العالمين للتبريزي.
يعتبر متحف الإرمتاج في مدينة بطرسبورغ الروسية من أشهر متاحف العالم، ويفخر هذا المتحف بوجود المخطوطات الشرقية والآثار الإسلامية بين جنباته، حيث تلقى هذه المعروضات والمخطوطات إقبالاً شعبياً منقطع النظير.
أخيراً لا بد من القول إن المخطوطات العربية في دول الاتحاد السوفيتي السابق وفي روسيا على وجه الخصوص تعد بعشرات الآلاف وهي تتعرض مع مرور الوقت وتعاقب السنين إلى التلف، وكثير منها ما زال بعيداً عن الدراسة والتحقيق، مع العلم أن المستشرقين الروس لا يبخلون بالوقت ولا بالجهد ولا بالعرق من أجل الحفاظ على هذه النفائس. أنا أريد أن أنتهز هذه المناسبة لأدعو زملائي المتخصصين لأن يشمروا عن سواعدهم ويذهبوا لمساعدة قرنائهم الروس في إخراج مخطوطاتنا العربية النفيسة إلى النور.