تغيب ثقافة الأرشفة عن مؤسساتنا الإعلامية والثقافية، فلا يجد الصحافي للأسف في كثير من الأحيان في مؤسسته أرشيفا يعود إليه أثناء كتابته إحدى المواد التي تتكئ في بنائها على تتبع خيوط قضية رأي عام ما، أو رصد معلومات هامة تحتاجها المادة، ما يضطره عوضا عن ذلك للبحث عبر محركات البحث الإلكترونية، التي تقتطع من وقته الكثير. في الوقت الذي كان من المفترض أن يوفر له في مؤسسته أرشيفا وتعطى له دورات في هذا التخصص الحيوي والمفيد ويتم تطوير أدواته في التوثيق والأرشفة وفق أسس علمية سليمة باعتبار أن عمله كإعلامي يقوم جزء غير قليل منه على البحث عن المعلومة وتتبع جذورها، إذ لا يفترض أن تبقى دراسة الأرشفة حكرا على طلاب قسم المكتبات في الجامعات.
وبالمثل لا يجد الأديب في النادي الأدبي الذي ينتسب له أيضا أرشيفا يعينه أثناء تأليف كتاب، أو كتابة بحث أو مقال، والأمر ذاته للأسف يسري على بقية مؤسساتنا الثقافية.
وطبعا لا تقتصر أهمية الأرشفة على الجانب الثقافي والأدبي بل تنسحب أهميتها على كل مفاصل حياتنا اليومية، خاصة في ظل إيقاع التطور الحضاري المتسارع، والتغييرات الهائلة التي تطرأ بإطراد على جزئيات واقعنا المعيش.
وتعرف الأرشفة، كما في المصادر بأنها: عملية حفظ وترتيب وتخزين الوثائق والمستندات والأوراق وفق آلية تضمن سلامتها وسرعة الوصول إليها بسهولة لدى الحاجة، ويذكر أن مفردة أرشيف في اللغة: مشتقة من الكلمة الاغريقية «ارشيون» والتي تعني المكتب، ويقال بأنها في الأصل كانت تطلق على سجلات الحكومة ووثائقها. وأن كلمة الأرشيف تعني دار حفظ الوثائق وهي الإدارة التي يتم فيها حفظ كافة الوثائق والمحفوظات التي أحيلت إلى الحفظ النهائي من خلال الإدارات المختلفة بأي من المصالح الحكومية كالوزارات والهيئات وكافة الإدارات التابعة للدولة والتي يمكن الرجوع إليها من حين لآخر ولها تأثير إيجابي في اتخاذ القرار المناسب وبالتالي لابد من الوثوق بنظام الحفظ وطرقه التي تفيد في سرعة الاسترجاع، ويعد الأرشيف بالنسبة للدول الذاكرة الخارجية للأمم التي تحفظ التاريخ، والحقوق، واثبات الملكية، وتاريخ الدول فالأرشيف يحظى بأهمية كبرى لدى الدول التي تقدر قيمة المعلومات وكما أن للأرشيفات أهمية كبرى في شبكة المعلومات الإلكترونية للدولة فلها أولوية أيضا بالربط المباشر بصناع القرار. وتساعد عملية الأرشفة في تأسيس قاعدة بيانات ومعلومات لأي منشأة وقطاع، وتسهم كثيراً في وضع تقييم شامل وواقعي وعلمي عن تطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في أي دولة».
ويوجد نوعين من الأرشفة: «التقليدية الورقية»، و»الإلكترونية»، والأخيرة هي التي تسيدت الساحة في الوقت الراهن، وهي تمتاز بسهولة الوصول للمعلومة، وعدم احتلال حيز مكاني، والربط المعلوماتي بين أجزاء المؤسسة الواحدة وإن تباعدت.
ولأن عملية الأرشفة تحمي المنجز الثقافي والإبداعي من التحريف والضياع، كما توفر مادة خام للباحثين، والدارسين، والمبدعين والكتاب والمهتمين، فهذا ما دفع الكاتب المسرحي السعودي علي بن عبدالعزيز السعيد، قبل نحو عقدين من الزمن للبدء في عمل أرشيف المسرح السعودي، بعدما صدر كتاب حول المسرح السعودي يحوي معلومات غير دقيقة عنه بعنوان»المسرح السعودي ، دراسة نقدية»، للكاتب نذير العظمة. وأرجح أن الأخطاء التي وردت في الكتاب جاءت نتيجة عدم التوثيق المسبق لمنجزنا المسرحي وصعوبة الوصول للمعلومة الدقيقة وقتها.
وهذا ما جعل السعيد تحديدا يقرر حينها البدء في مشروعه لتأسيس أرشيف للمسرح بجهد ذاتي مكنه فيما بعد من رصد بذرة نشأة المسرح السعودي، و أهم محطاته، وما مر به من تطورات، عبر جمع كل ما يمت للمسرح بصلة، من نصوص إبداعية، وكتب، ومجلات، ودراسات، وبروشورات، ومطويات، وملصقات، وصور لبعض اللقطات المسرحية، التي خلد بعضها عدد من رواد المسرح المحلي من الراحلين، وكذلك عدد كبير من تسجيلات الفيديو، وما نشر حول المسرح من مواد في الصحف والمجلات، وتذاكر المسرحيات، وبطاقات الدعوة لحضورها.
وقد تم الإفادة من أرشيف المسرح، حسبما قال السعيد في نادي أدبي الشرقية، من قبل كتاب، وباحثين، ودارسين، ومهتمين، وكذلك في مهرجانات، ومعارض، ولازال مطروحا للإفادة منه لكل مهتم ودارس، عبر التواصل الشخصي مع مؤسسه، لأن الأرشيف لم تتبناه حتى الآن مظلة رسمية يمكن أن تحفظه من الضياع للأجيال المقبلة، وتحفظ الجهودات التي بذلت فيه.
هذا بخصوص أرشفة المسرح التي رغم أهميتها تبقى نتاج جهد فردي يظل محكوما بظروف التجربة الفردية لأي مشروع هو بحاجة في الحقيقة لتضافر جملة من الجهود. ويبقى السؤال: ماذا عن بقية المعارف والفنون والآداب المحلية؟ هل ثمة أرشيفات على المستوى المؤسسي أو حتى الفردي تحفظها من الضياع وفق معايير التوثيق العلمية السليمة، وبشكل ممنهج، ليتم هضمها عند الحاجة إليها بشكل سليم ومن ثم البناء عليها، والإفادة منها بطريقة صحيحة وفاعلة، بخاصة في مشاريعنا ومناشطنا الثقافية والأدبية التي يعاني الكثير منها للأسف من العشوائية والارتجالية؟