في كل مرحلة من مراحل الصراع الاجتماعي، الذي أصبح إقليمياً ودولياً بعد الحروب المتتالية، يُوجد معطيات ومستجدات عديدة، تتطلب إعادة تموضع، إما للتحضير للمواجهة القادمة أو للتعاطي بواقعية وقبول التغيير.
عندما انتصر الاتحاد السوفييتي السابق في الحرب الثانية تحول الصراع إلى توتر بارد أو (الحرب الباردة)، وهي حرب معلنة دون سلاح، وذلك لأن التطور العسكري بلغ مستوى الدمار الشامل، أي أن الحرب الساخنة تهدد بإبادة الأطراف المتصارعة كلها.
هذا النوع من التعاطي مع المستجدات يُسمى (براغماتية)، والكلمة مشتقة من الجذر اليوناني (براغما) أي العمل أو العملي.
البراغماتية بمعناها الحقيقي، أي التعاطي مع المستجدات بصورة عملية وواقعية، هي وسيلة متاحة لجميع الأطراف المتصارعة، أي أن الجميع يحاول تقييم مواطن الضعف والقوة بواقعية لديه ولدى الآخرين ويحاول من خلال ذلك استمالة نتيجة الصراع إلى جانبه أو تخفيف حدة الخسارة إذا كانت حتمية.
البراغماتية بهذا المعنى هي منهج ضروري لممارسة سياسية سليمة، وهي تتطلب مرونة عالية وإعادة تصنيف الأعداء والأصدقاء تبعاً لموازين القوى، وهو ما يفسر التغير المفاجئ في العلاقات الأمريكية - الإيرانية مؤخراً، الذي يستند لنضوج وضع دولي وإقليمي جديد يستدعي (براغماتياً) إعادة الحسابات وبناء علاقات جديدة.
بَيْدَ أن المصطلح ليس للتوصيف وحسب، بل هو بذاته أداة من أدوات الصراع، فليس اعتباطاً أن يتم تشويه البراغماتية، كما هو الحال بالنسبة للمصطلحات الأخرى، لإرباك الوعي وإبعاده عن الحقيقة في عملية غزو ثقافي أو غسيل أدمغة.
الترجمة العربية للبراغماتية هي (الذرائعية)، وهذا أبعد ما يكون عن المعنى الحقيقي، حيث إن الذريعة هي وسيلة لا تتلاءم مع مجرى الصراع من أجل لي عنقه وحرف اتجاهه، فالعنف مثلاً لإسقاط طرف من أطراف الصراع هو وسيلة قذرة لتغيير موازين القوى لا تتماشى مع منطق التطور التاريخي وغالباً ما تفشل.
يضع البعض البراغماتية حجة للتخلي عن المبدئية باعتبارهما نقيضين، وهذا تشويه للبراغماتية والمبدئية معاً.. الإنسان المبدئي البراغماتي يستطيع التعامل مع الحدث بصورة واقعية وتحديد موقعه بدقة في الصراع، أما الذرائعي فلا يحدد أو لا يريد أن يعترف بموقعه المهزوز في الصراع العام.
كثيراً ما تجد وصفاً للمبدئية على أنها سذاجة، بينما البراغماتية بمعنى (المصلحية) هي الذكاء بعينه.. هذه المقولة الماكرة ترويج للذرائعية بمعناها القذر، أي أن الفساد والرشوة وتقبيل الأيدي والغدر بأقرب الناس إليك هو ذكاء فذ، أما الأخلاق الحميدة والوطنية والتفاني من أجل الآخرين، أي المبدئية، هي سذاجة وغباء يجعلك في مصاف المساكين المأسوف على حالهم.
البراغماتي ليس بالضرورة هو مبدئي، أو بمعنى أصح إيجابي في الصراع العام، يوجد أطراف سلبية مناهضة للتغيير ولكنها براغماتية، فالولايات المتحدة مثلاً أعادت رسم خارطة علاقاتها الدولية تبعاً لموازين القوى وليس حباً بإيران أو الصين أو روسيا أو غيرها، بينما امتنعت فرنسا عن هذا السلوك البراغماتي مؤقتاً، وهي الحليف الأبرز للولايات المتحدة في الصراع الدولي.. ربما استطاعت فرنسا من خلال ذلك تحقيق بعض الرشاوى أو ابتزاز سياسي، ولكنها سرعان ما تراجعت عن هذا السلوك ورضخت براغماتياً للأمر الواقع، لأن مصلحتها وحلفائها تتطلب ذلك.
ليس من السهولة للمنظمة أو الدولة وللفرد أن يكون براغماتياً، فذلك يتطلب (وعياً) عميقاً بمجريات الصراع وموازينه، حيث الأطراف التي تريد التغيير (المبدئية) تنمو وتقوى حتماً، بينما القوى المضادة تعيش أزماتها وتخبو.
عدم الاعتراف بتغير موازين القوى يقود للخيبة والهزيمة والمفاجآت المحبطة والانهيار الحتمي في النهاية، فقد انهار الاتحاد السوفييتي السابق ومعه المنظومة الاشتراكية وتمزقت الحركة اليسارية في العالم أجمع بسبب المبالغة في تقييم القوة والضعف والانجرار وراء طمس المعنى الحقيقي للمصطلح، وخصوصاً البراغماتية وجعلها نقيضاً للمبدئية والديمقراطية وحقوق الإنسان وما إلى ذلك من تشويه. العالم اليوم يمر بمرحلة انتقالية مصيرية بامتياز، حيث ينحسر نفوذ الرأسمال وتنبثق أقطاب إقليمية ودولية جديدة، تشق طريقاً لم تعرفه البشرية منذ آلاف السنين، وهو البداية لإنهاء الاستغلال واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان، نهاية تسلط المالك على المملوك، نهاية القفز على التاريخ ولي عنقه، نهاية استعباد شعوب الأرض، وبداية الإقرار بمصالح الجميع والتفاهم حول المصالح وليس التقاتل وحروب الإبادة.
لا يجوز حجب الشمس بمنخل وإغماض العين عن رؤية الحقيقة، لأنها طفولة سياسية لا تؤدي إلا إلى كوارث لا تحمد عقباها.. البراغماتية ليست خياراً، فالولايات المتحدة اكتشفت أن التصعيد والمواجهة العسكرية ضد الأقطاب الإقليمية والدولية الجديدة تؤدي ليس إلى خسارتها وحسب، بل إلى فنائها كدولة، ومن لا يريد أن يصدق من الصهاينة الأميركان أو غيرهم إنما يذهب برجليه نحو الانتحار.