في نهاية العام 2007 سُئلتُ، ضمن استطلاع ثقافي أجرته إحدى الصحف، عن أهم كتاب صدر في العام المنصرم برأيي، فقلتُ: (انفجار المشرق العربي) للدكتور جورج قرم، الصادر آنذاك في طبعته العربية الأولى عن دار الفارابي ببيروت مترجماً عن الطبعة الفرنسية الثانية الصادرة عن دار جاليمار بباريس، وهو كتابٌ ضخم يتناول بالرصد والتحليل الفترة ما بين 1956 و2006 (من تأميم قناة السويس إلى غزو العراق)، وذكرتُ أنني أعتبره أهم إصدارات ذلك العام، رغم عدم حيادية الكاتب وانحيازه الواضح وتهويله للأحداث..
الآن، ونحن في الشهر الأول من العام 2014 أعود إلى الكتاب نفسه وأرى فيه ما لم يره الكاتب - أو أنه كان يستشعر به من دون أن يلمّح إليه، ربما - أثناء رصده الدقيق وتحليلاته السياسية والاقتصادية وما ينسحب عليها من تحولات ثقافية لتلك المرحلة الزمنية الطويلة بالقياس إلى ما تلاها من مراحل قصيرة زمنياً وتضم أحداثاً أكثر كثافة وتأثيراً على العموم؛ فالكتاب حين يُقرأ الآن يُرى بأنه كان (يبشّر) بانفجار أكثر من كونه يرصده أو يحلله، والفترة التي تستحق مسمّى (الانفجار) هي الفترة التالية لتلك الأحداث التي كانت بمثابة إرهاصات لانفجار سيبدأ مع مطلع العام 2011 ولا أحد يعرف إلى أين سينتهي.
وعلى هذه القراءة يكون كتاب المفكر والاقتصادي اللبناني البارز جورج قرم الذي أترقبه من دون معرفة بوجود نية لتأليفه أصلاً، لا بد أن يأتي بالعنوان نفسه (انفجار) ولكن ليس المشرق العربي وحده، بل الخرائط والتقسيمات الدولية كلها، ربما.. والمؤكد أنه انفجار (الكيانات) التي كنا نحسبها لا تنفجر أبداً؛ في هذا العالم الذي انفجرت عقولٌ دون تخمين أحداثه المتتالية في فترات متقاربة كسرت كل القواعد المألوفة سابقاً..
يقول جورج قرم، ص339 من كتابه: (وفي واقع الأمر، لم تحسم المعارك في لبنان أي شيء بصورة نهائية) وهذا صحيح وواقع وممتد حتى الآن، وكأنه مكتوب اللحظة، غير أن تكملة كلامه تجعلنا نشعر بالمسافة بين ما كان أو ما كنا نظن وما حصل فعلاً. يقول: (صحيح أن منظمات الرفض خرجت أكثر ضعفاً في نهاية المرحلة مما كانت عليه في بدايتها، لكن كان لا يزال لها حماة أقوياء، على رأسهم العراق وليبيا)..!
الدكتور جورج قرم مفكر وسياسي واقتصادي، وكان وزيراً للمالية في فترة رئاسة الدكتور سليم الحص للحكومة اللبنانية نهاية العام 1998 حتى انتهاء الفترة بعودة الشهيد رفيق الحريري لرئاسة الحكومة اللبنانية نهاية العام 2000 بعد انتخابات صاخبة كانت حديث المجتمعات العربية كلها لما كان يتخللها من دراما وكوميديا ومشادّات ومشاحنات ومزايدات إعلامية لم تكن معتادة في المنطقة؛ وكل ذلك لم يأت الكتابُ على رصد شيء منه وتحليل مسبباته وتبعاته، ولا بأس، فالموضوع أشمل ولا يتسع ربما لحالات يكون المؤلف محسوباً على طرف منها، ولكن.. ماذا بعد كل ما حدث، سواء في مصر منذ تأميم قناة السويس، أو في العراق منذ احتلاله، أو في لبنان وسوريا منذ تفجير رفيق الحريري؟
الواقع أن السؤال يجب أن يكون هكذا: ماذا بين عامي 2006 في لبنان و2011 في مصر؟ مختصرين بذلك خمسين عاماً السابقة إلى خمسة أعوام تلتها هي الإرهاصات الأكثر وضوحاً لانفجار أشدّ صعوداً وتمدداً لا أحد يستطيع أن يخمّن مداه حتى اللحظة، فهل يفعلها الدكتور جورج قرم ويقدم للعالم كتاباً يرصد ويحلل فيه الانفجار الحقيقي..؟
أستدركُ فأقولُ: ربما نظن أننا لم نعد بحاجة إلى كتب من هذا النوع لنقرأ في مئات الصفحات ما نشاهده ونلمسه في لحظات وقوعه آنياً، ونبقيه موثقاً بالصوت والصورة في وسائل معلوماتية غاية في السهولة والاسترجاع، غير أن التاريخ المفصليّ سيظل ينبغي له أن يكون مكتوباً - حتى وإن لم يكن محايداً - فلا بد له أن يستكمل نفسه بأكثر من نحو، وبأكثر من رؤية وشهادة وأكثر من طرف. ومن أرّخ بشمولية وثائقية وفكرية - ومن دون تكليف من أيّ جهة - لانفجار لم يكن مفاجئاً في حينه، وقد بات الآن تحت الرماد، أجدر به أن يتمم مشروعه بالمواكبة والتصدي للمرحلة الراهنة من المفاجآت التي تتفجر من كل مكان. حتى يأخذ مسمى (الانفجار) معناه الحقيقي، وتصنيفه المستحق التزاماً، فهو الأسرع من السابق بعشر مرات، وأوسع بعشرين مرة، ولا يزال يشتعل في أماكن متعددة لا أظن منتهاها المشرق العربي وحسب.