ليس التاريخ في حياة الشعوب مجرد سلسلة من الأحداث والأخبار والقصص إنه «الذاكرة المقدسة» التي يتشكل من خلالها «عقيدة العقل الاجتماعي» العقيدة الصانعة لهوية الشعوب والمُؤثِرة في تأسيس حاضرها ومستقبلها؛ ولذلك تُعدّ العقيدة التاريخية من أهم الأجهزة التي تُحافظ على استقلال الشعوب وخصوصية هويتها كما أنها من أهم مصادر المقاومة ضد التدميج بأي صيغة؛ فالعقيدة التاريخية للشعوب «هي التصور الرسمي للأصل وقدراته».
كما أن عراقة الأمم وحضارتها تُقاس بأصل تاريخها وأهميته ودوره في بناء ثقافات الأمم الأخرى وخبراتها الحضارية،مما يجعل العقيدة التاريخية مصدر تفاضل،كما يجعلها مصدر أزمة لمن لايملك عقيدة تاريخية.
ولا شك أن تلك العراقة كما تؤثر على «قدسية الذاكرة التاريخية» تؤثر بالمثل على الفرد والمجتمع؛أي تكوين «قيمة المفاضلة» بالنسبة للفرد الآخر والمجتمع الآخر.
وقيمة المفاضلة تلك قد تتحول إلى مصدر «للصراع والعداء والتمييز العنصري» كما قد تتحول حينا إلى «عائق نهضوي».
ونظرا لأهمية «قدسية الذاكرة التاريخية» في حياة الشعوب قد يصبح التاريخ سببا من أسباب الصراع بين الشعوب وخاصة في زمن استعمار الفرد والجماعات والشعوب، وهو ما قد يحول التاريخ أحيانا إلى «لعنة».
إن التاريخ كان ومايزال وسيظل عاملا مهما في توازنات القوى، فمن يحكم ويسود هو من يملك «العقيدة التاريخية المثلى» بل من يمتلك «العقيدة التاريخية المثلى» هو من سيحكم ويسود.
لأن العقيدة التاريخية والأرض هما « شهادة إثبات لحقيقة الوجود وقيمته؛ إنهما فاعلا الكينونة» ومن أجل ذلك تسعى القوى السياسية من لا تملك تاريخا ولا أرضا إلى امتلاك عقيدة تاريخية وأرض ولو زورا وتلفيقا وسطوا على تاريخ غيرها وأرضه لتنسبه لنفسها.
إن من لا يملك عقيدة تاريخية هو «مولود غير شرعي» لا يمثل للآخر قيمة مهما بلغ نفوذه.
إن «مفهوم مثالية العقيدة التاريخية» أو «نمذجة العقيدة التاريخية» يدخلان في «صناعة العقيدة التاريخية» وهي صناعة تهدف في ذاتها إلى «تصفية العقائد التاريخية العريقة» بطريقة «بيضاء سلمية» وتصب تلك المثالية والنمذجة في نهاية الأمر في نهر من يحكم ولا يملك عقيدة تاريخية.
وتتعقد الأمور إذا كان من سيقود ويسود لا يملك «عقيدة تاريخية»، حينها سيكون أمام تلك القوى أمر من أمرين؛ أولهما «تصفير العقائد التاريخية للشعوب»؛ والتصفير يتم من خلال عدة طرق منها؛ إثبات سلبية تلك العقيدة أو رجعيتها او عنفها أو عدم صلاحيتها الحضارية، أو الدفع إلى رفضها أو الثورة عليها من خلال استغلال ضعف وغضب شعوبها من خلال ترويج العقيدة التاريخية المثلى.
وتحقق تمام الإثبات سيدفع الشعوب إلى التخلي عن «عقائدهم التاريخية» ، والتخلي هنا ليس بمعنى «الوأد» إنما بمعنى إخراج تلك العقيدة من «حساب الفاعلية»، ليتساوى الجميع في «الفراغ التاريخي» من يملك ومن لا يملك كما أن نجاح «تحقق تمام الإثبات» يفتح المجال أمام معيّرة «صناعة العقيدة التاريخية المثلى» لأنها وسيلة التحفيز لتثوير الشعوب على عقائدهم التاريخية المحلية، وهي صناعة يدخل جلّها في «التلفيق المباح» أو «التزوير الشرعي» و» السطو التاريخي عبر التوثيق المزيف» وعبر شيطان الدراما.
أما الأمر الثاني بعد «تصفير العقائد التاريخية» فهو «توحيد جذر العقيدة التاريخية للشعوب» في حالة فشل «عملية التصفير تلك» و»توحيد العقيدة التاريخية للشعوب وفق معايير نمذجة العقيدة التاريخية» يُسهّل عملية التفاضل والتراتبية بين الشعوب من خلال تأسيس معايير خاصة تخضع لها تلك المفاضلة مع مراعاة إخراج المعايير المبنية عليها العقائد التاريخية المحلية للشعوب مقابل إدخال معايير للمفاضلة لا تعترف بها العقائد التاريخية المحلية أو تهمّشها لتًصبح مصدر صراع بين الفرد وعقيدته التاريخية المحلية.
وتصفير العقائد التاريخية للشعوب أو توحيد جذر العقيدة التاريخية للشعوب لا يتحققان إلا من خلال التأثير الثقافي والفني والإعلامي مما يجعل «الدراما» هي الشيطان الذي يقود الثورة على «العقائد التاريخية للأمم»، أو الشيطان الذي يصنع «عقيدة تاريخية من لا عقيدة له» أو يزوّر «العقائد التاريخية حذفا وإضافة،قصا ولصقا».
ولذلك فالعربي في العقيدة التاريخية للأمريكي والغربي التي تشكلت من خلال ماكينة الدراما هو «رمز للشر والعنف والإرهاب والتطرف والتخلف» وما تزال هذه الرمزية قائمة لأن العرب يفتقرون إلى ماكينة الدراما بذات القدرات لماكينة الدراما العربية لصناعة عقيدة تاريخية مضادة لتفنيد الذاكرة الدرامية للمواطن الإمريكي والغربي.
والغربي بوجه عام والأمريكي خاصة في العقيدة التاريخية الجديدة للعرب التي تشكلت أيضا من خلال ماكينة الدراما هو «رمز للبطولة والحرية والديمقراطية والحضارة والعلم».
إن من يملك صناعة الدراما العالمية اليوم هو من يتحكم في صناعة «العقيدة التاريخية الجديدة» لشعوب العالم.
وبذلك يتجاوز معنى التاريخ مفهومه التقليدي «الاقتضاء المبني على الأزلية والعمق الزمني» وعراقة الأصالة،ليدخل إلى دائرة «صناعة العقائد»؛لتصبح الإمكانية بجواز «صناعة العقيدة التاريخية» خارج أصلها مقبول عقلا وتوثيقا لمكافحة التمييز العنصري والعرقي والديني والطائفي والأصل التاريخي.
ولذلك تسعى الأنظمة الاجتماعية إلى «إحلال العقيدة الوطنية» محل «العقيدة التاريخية» ويمكن تقسيم عملية الإحلال تلك إلى ثلاث مراتب؛ إحلال بالمجاورة ويهدف إلى اتساع المجتمع لكل التنوعات ويتمكن من توحيدها داخل عقيدة لا تضر بالأصول التاريخية وتحافظ على حرية العقيدة التاريخية وسلامة السلم الاجتماعي مثلما نجد في المجتمع البريطاني.
وإحلال بالإضافة ويهدف إلى الاستفادة من تعدد العقائد التاريخية للأصول ودمجها لإعادة صياغة العقيدة التاريخية للمجتمع وإيجاد تراث مشترك وقيم جامعة مثلما نجد في المجتمع الأمريكي.
وإحلال بالحذف وهو الذي يهدف إلى أحادية العقيدة التاريخية في أصلها الأول مع العقيدة الوطنية وإلغاء أي عقيدة تاريخية أخرى مثل المجتمع الصيني، والإحلال بالحذف يدخل ضمن «تصفير العقائد التاريخية»، أما الإحلال بالمجاورة والإضافة فيقومان على قيمة الأولوية لا الإلغاء.
والجواز العقلي والتوثيقي « بصناعة العقيدة التاريخية» يُسهل تجاوز شرطي «الأزلية» و»العمق الزمني»؛ يتجاوزهما في بعدهما التقليديين المبنيان على عراقة الأصل ونقائه وثباته، لا في تأثيرهما؛لأن التأثير يدخل في باب إمكانية التصنيع،كما أن إيجاد مُعادِل لتغطية القصور التقليدي للعراقة نقاء وثباتا يمكن تحققه من خلال الإنجاز والفائدة العقلية والعلمية لا الفائدة الوجدانية، وبذلك فصناعة العقيدة التاريخية تعتمد على العقلنّة والعلمية والفائدة المكتسبة لا على «الموروث وأدبياته».
إن أهمية قيمة العراقة نقاء وثباتا في العقيدة التاريخية لمحليات الشعوب أنها ممثلة لوحدة أي شعب من الشعوب وضامنة لبقاء هويته الخاصة واستمرار تماسكه.
لكن كما ذكرت سابقا أهمية تلك القيمة يمكن أن تُعادل بما يُحقق للمجتمع «من فوائد ومصالح مشتركة» إذا تصبح تلك الفوائد والمصالح من خلال الإنجاز المشترك هي الممثلة لوحدته والضامنة لبقاء هويته واستمرار تماسكه.
وكلما تقدم الإنسان وتعددت وسائل اشتراكه مع الآخر تراجعت العقيدة التاريخية المحلية لتحل محلها ولو جزئيا عقيدة تميل إلى اندماج الكل من خلال سعة الاشتراك بدلا من جدوّلته.
وهنا تدخل العقيدة التاريخية في تنافس مع مصطلحات مثل الإنسانية والكونية والعالمية أو العولمية التي تجعل أهمية القيمة «للفائدة المادية» بدلا من «الفائدة المعنوية».
إن طرح المنافسة بين العقائد التاريخية المحلية والعقيدة التاريخية الجديدة للشعوب من خلال الإنسانية والكونية والعالمية والعولمية والرأسمالية الجديدة القائمة على شركات الجنسيات المتعددة،تسعى إلى توحيد العقيدة التاريخية للشعوب خارج عقائدها التاريخية المحلية،وهذا التوحيد يتم من خلال وحدة معايير تلك العقيدة،المعايير الكافلة للقيمة المطروحة أي أنسنة الشعوب وكوننتها وعولمتها وهي « الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة» وأي عقيدة تاريخية محلية لا تحتوي هذه المعايير أو لا تنفذها هي معرضة للتجريم والتحريم والتدمير من صانع العقيدة التاريخية الجديدة لشعوب العالم وهنا تبدأ رحلة تشكل الذاكرة المقدسة من جديد.