عندما تبدأ بقايا الشمس في آخر المساء بلملمة ضفائر أشعتها الداكنة عن صفحة الأفق البعيد، ويُنزل الليل عباءاته الثقيلة على نوافذ ذاك البيت القابع في مجمع كبير، تهمُّ تلك المرأة التي تدعى «سحابة» بنسج خيوط رغباتها العنكبوتية على مواقع التواصل الاجتماعي.
تتفرس في الوجوه الغافية لأفراد عائلتها المكونة من خمسة أفراد، وحين تتأكد من أنهم أصبحوا في قاع بئر النوم العميقة، تندس في سريرها، لتفتح صفحتها عبر الهاتف المحمول، ثم تتأمل بزهو قائمة أسماء الأصدقاء بشغفٍ جائع، وتصبح عيناها كعيني وطواط ليلي يتربص حشرة طائرة ليلتقطها بلسانه اللزج. تبدأ لعبة الاختيار من بين أسماء القائمة المضاءة باللون الأخضر. ثم تضغط على زر التواصل معلنةً بدء ليلة جديدة من حياة أمضتها على هذا المنوال مذ بدأت مواقع التواصل الاجتماعي بالظهور.
في أحيان كثيرة لا تكتفي سحابة بالتواصل مع شخص واحد، فلديها مهارة كبيرة في استخدام التقنيات، تتنقل أصابعها بين حقول المحادثة برشاقة أجنحة بومة وهي تنقض على ذيل فأر قبيل دخول جسده كاملاً في جحره بلحظات. تستطيع التواصل مع شخصين أو أكثر في المرة الواحدة، بل بإمكانها التحدث على أكثر من وسيلة اتصال في الوقت نفسه. كانت ترسم في خيالها أنها تقود «سرباً» من الرجال. ليس لدى سحابة من مهارات سوى خبرتها في استخدام شبكة الإنترنت، وأيضا مهارة جمالها، فهي تستعمله بذكاء شديد، حتى أنها عندما التحقت بالجامعة في بلد آخر غير الذي تقيم فيه، فإنها توسلت بجمالها العديد من الطلبة ليقوموا عنها بأعباء المحاضرات، ومستلزمات الدراسة. ما عدا هاتين المهارتين، فإن غطاءً شفيفاً من البلاهة يكتسي عقل سحابة، ويترك انعكاسه على وجهها وطريقة مخارج حروفها من الأنف كآلة صدئة.
يصيب سحابة أحياناً الملل من هذه الطريقة بالتواصل مع «سرب» الرجال، فتبدأ بابتكار طرق جديدة، آخرها أنها قامت بتقسيم الفترات على الأشخاص الذين تتواصل معهم، وكانت الفترة النهارية من نصيب الكاتب عادل. رجل في أواخر الأربعينات من عمره، له جاذبية سحر شجرة نادرة في حقل متشابه الأشجار. يفصل بينه وبين سحابة إلى جانب المسافات الجغرافية، ثلاث عشرة من سنوات العمر.
في تلك الفترة التي التقيا معاً على موقع للتواصل الاجتماعي، كان عادل يجهز لرواية جديدة، كان قد مضى على تواصلهما قرابة السبعة شهور، تمكن عادل خلالها، من اكتشاف ما تخبئه سحابة تحت دثار ليلها، لم يكن هو الوحيد الذي اكتشف أمرها، ولكنه الوحيد الذي اهتم بما تفعله، فقرر أن يجعلها إحدى شخصيات روايته، فأوهمها بأنه اقتنع بما تقوله له من كلام عن الحب، وإمعاناً منه في إيهامها، فقد بدأ يحشد قريحته الشاعرية ليكتب لها عبارات جعلتها تستغني عن عدد لا بأس من الرجال لأجل أن تمنحه وقتاً أطول، واحتفظت بما يسلي ليلها بعد أن يهجع عادل للنوم. قال لها ذات شجن:
- رأيتك في حلمي تنثرين على صفحة النهر القديم حكاياك الصامتة منذ أزل الطفولة.
ظلت سحابة تمعن في الإيحاء لعادل بأنه الوحيد في حياتها، وظل عادل يدعي تصديقها ريثما انتهى من طباعة روايته التي جاءت بعنوان.. «جارية الليل».