متفتحةً بقلوب أهلها، تنمو المحبة فيها كزهرة إقحوان لم تمسها الأيدي من قبلُ، تبتسم لكل زائر، تكبر رويداً رويداً، فهي تطلُّ من شرفة التطور والنماء كطفلة شمالية تكتحل بهدوء فاتن!
الجوف تملك مقومات النماء والتطور، وتحتفظ بجمال الهيبة والأصالة، ما إن وصلتها حتى أثلج صدري رنين كلمات أهلها وحروف كلامهم الأنيق الجميل، فكأنها تخرج لك خاصة دون غيرك، تشعر بالحروف تنساب كـ (مياهها الجوفية) النقية، روحهم عليك متلهفة، وأنفاسهم بها ملتحفة.
مساء الاثنين الخامسة عصراً تقريباً، كنتُ أمتطي راحلتي والقلب يمتطي راحلته شوقاً ولهفة لرؤية هذه المدينة الجميلة والمنطقة البهية، وهي الزيارة الأولى لي؛ إذ لم يسبق لقدمَيّ أن حطّت رحالهما في (الجوف) الهادئة النائمة في أكناف الرمال. لم تكن الساعات إلا قصاراً بين القصيم والجوف، حتى استقبلتنا الكلمات الجميلة من (حاتم الشمري)، ذلك الشاب اليافع الأنيق، كلمات ملؤها الاحترام والتقدير تنبع من قلب صافٍ وعقل واعٍ. سبقني إلى حيث الإقامة، فكانت منازل (النُزل) هادئة وجميلة، فهي تتشكل بألوان مختلفة ومعانٍ متباينة، لصالاته وهج تاريخي يمتد منذ سنوات، يمزج إرث حضارات وتاريخ أمم، ما إن دخلته حتى كنت في حضرة من وددتُ لقاءهم من قبلُ، أساتذة فضلاء ودكاترة أعزاء رؤساء الأندية الأدبية، في محل أدبي ثقافي تجمعنا فيه الجوف، كان ملتقى (رؤساء الأندية الأدبية الرابع)، وحضرتُ ممثلا لنادي القصيم الأدبي نيابة عن الدكتور حمد السويلم رئيس النادي. كانت الأيدي المصافحة تتناوب فرِحة ومسرورة بين الحاضرين، والحوارات تتناوب أدباً وشعراً وثقافة وفكراً.
في صبيحة يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من الشهر السادس سعدت بدعوة من جامعة الجوف لحضور مؤتمر اللغة العربية الأول (اللغة العربية والبرمجيات الحديثة). كان حفلاً افتتاحياً أنيقاً. ما أدهشني فيه كل شيء فيه، وما زاد دهشتي وقوف معالي مدير الجامعة ملقيًا كلمته؛ إذ كان رابط الجأش، تنساب بين كلماته حرقة، ويغفو الألم بين ابتسامته أثناء حديثه! انتهى الافتتاح وما انتهى الحوار والنقاش حول اللغة العربية حتى حلّت ظهيرة ذلك اليوم؛ فانصرف القوم!
في مساء ذلك اليوم كان اجتماع رؤساء الأندية الأدبية. كنتُ في نفسي أترقبُ أحداً من وزارة الثقافة لحضور هذا الملتقى المعني بأنديتها، لكن لم يحضر أحد! سارت الاجتماعات على أمل قادم وألم قائم! فالآمال كثيرة ومعلقة، ولم تزل الأندية الأدبية تترقب من أصحاب القرار أملاً في تعليق الجرس وإلا ظلت الأندية تسير بقدم عرجاء!
انتهى ذلك اليوم الحافل ببرنامج رائع بدعوة كريمة ولقاء جميل بوكيل إمارة الجوف الأستاذ/ سلطان آل الشيخ الذي أكرم وفادة الحاضرين، وأنزلنا من قلبه منزلاً مباركاً، وكان منزل الأستاذ/ ثامر المحيسن الذي وهبنا من وقته وجوده شيئاً كثيراً هو محط رواحلنا تلك الليلة، فكانت ليلة أنيقة بضيافة رائعة وضيوف أعزاء.
- دومة الجندل عروس الجوف!
كان يوم الأربعاء مختلفاً؛ فهو يرسم دائماً في قلوب الرجال طرباً، ويحفل بكل ما هو جديد؛ إذ شُدّت الأحزمة وربطت الأعنّة إلى تاريخ جميل وعريق، إلى دومة الجندل حيث تزدهي بتاريخها الإنساني والإسلامي الفريد. كانت الوقفة الأولى في هذه المحافظة في (البحيرة) الواقعة في الجهة الشرقية من دومة الجندل، هذه البحيرة التي تكونت من تصريف مياه الأمطار والمزارع الموجودة داخل المحافظة. وتُعد هذه البحيرة من أكثر الأماكن السياحية جذباً لزوار المحافظة؛ فهي تمنح الزائر نفساً بحرياً لطيفاً. لقد كانت دقائق جميلة في نسيم عليل وماء نقي وصحبة أجواد كرام في رحلة بحرية لطيفة في أعماق الصحراء!
بعدها أقلتنا رواحلنا إلى حيث قلعة مارد التي تعدُّ من أهم القلاع الأثرية في بلادنا؛ إذ بنيت هذه القلعة من الحجارة على ارتفاع 2000 قدم تقريباً، ويُعتقد أنّ هذه القلعة قد شُيّدت في الألف الثانية أو الثالثة قبل الميلاد. وقد أُعيد بناء أجزاء من القلعة لتقادم الزمن عليها وتعرضها لتغيرات الأحوال والأجواء، أما الجزء الأكبر منها فقد ظل على حالته القديمة. تتكون القلعة من الداخل من مجموعة من الغرف، إضافة إلى أربعة أبراج في جهات القلعة الأربعة، وكانت تستخدم للمراقبة، كما يوجد في داخل القلعة بئر عميقة، لا تزال في حالة جيدة، وكانت ذات أهمية لساكني القلعة، وبخاصة وقت حصار الأعداء لها، كما توجد بئر أخرى أسفل القلعة. أما من الخارج فهناك سور فيه فتحات للمراقبة، ولها برجان بارتفاع 12م. وبشكل عام، فإن القلعة تتألف من طبقات، الأولى للحرس، والثانية للرماية، والثالثة للمراقبة. وكلمة (مارد) مشتقة من القدرة والامتناع، وتعني كل شيء تمرد واستعصى. ويذكر التاريخ أن ملكة تدمر الشهيرة زنوبيا (الزباء) غزتها، لكنها عجزت عن الاستيلاء عليها؛ بسبب مناعة تحصينها، وقالت كلمتها المشهورة: (تمرد مارد وعز الأبلق).
بعد تلك الجولة داخل القلعة حان للشمس غروبها، وحان لنا أن نحظى بزيارة مسجد عمر بن الخطاب الواقع في وسط المدينة القديمة، وهو ملاصق لحي الدرع من الجهة الجنوبية، ويعد من أهم المساجد الأثرية في المملكة العربية السعودية؛ إذ إنه يمثل استمرارية لنمط تخطيط المساجد الأولى في الإسلام، وينسب للخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ويقال إنه بناه سنة 17 للهجرة أثناء توجهه إلى البيت المقدس على الرغم من اختلاف الباحثين في صحة نسبة ذلك. ومهما يكن، فإن الناس قد تعارفوا على إطلاق اسم عمر بن الخطاب على المسجد. وقد بُني المسجد من الحجر، ورُمّم أكثر من مرة، كما أن مئذنة المسجد مبنية من الحجر بارتفاع يقدر بـ 7.12م. يقول أحد المؤرخين السعوديين: إنها أول مئذنة في الإسلام.
بعد أن انتهينا من صلاتَيْ المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، وقفت كلمات التوديع على شفتيّ، كنتُ أمانعها الخروج، لكن أبت إلا أن تخرج، كان مجال القول فيها عاجزاً:
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
فاصلة للذكرى :
- شكراً لإمارة منطقة الجوف، وشكراً لوكيلها الأستاذ سلطان آل الشيخ الذي حظينا منه بأجمل لقاء وأكرم يد.
- شكراً لجامعة الجوف التي منحتنا فرصة لزيارتها، وشكراً لمعالي مديرها الأستاذ الدكتور إسماعيل البشري.
- شكراً لنادي الجوف الأدبي؛ فقد أسعدنا به وبلقاء الزملاء الكرام، وبكرمه وجميل صنعه، وشكراً لرئيسه الدكتور محمد الصالح الذي لم يبخل علينا بكل ما هو جميل وأنيق من فعله وقوله.
- شكراً للأستاذ/ ثامر المحيسن، الذي أكرم وفادتنا إليه أيما إكرام.
- شكراً لنبض الشباب الذين كانوا في خدمتنا كل حين وكل لحظة، وكانوا قمة في كل شيء.