تعد برامج (توك شو) من أصعب وأعقد البرامج الحوارية لمنتجها ولمن يتعامل معها.... ضيفا، مقدما، ومخرجا، لأنها عادة.... برامج حية على الهواء، وهذا يتطلب تحضيرا خاصا، وقبل ذلك مهنية عالية تساعد على التعامل مع أدق التفاصيل الظاهرة والخافية والمتوقعة. على المستوى الشخصي, يأسرني هذا النوع من البرامج وأتابعه وخصوصا حوارات المشاهير، لأن هذه البرامج في ثقافتنا العربية ما زالت أسيرة لنمطية التكرار، ففي سوادها الأعظم نجد أن هذه البرامج صبغها العرف والتقليدية جدية مملة يسبقها هالة دعائية تسبق الضيف وتصاحبه، كل ذلك يصادر التلقائية التي هي الحجر الأساس في متعة هذه البرامج.
لأن برنامج يا هلا بالعرفج والذي يعرض في (روتانا خليجية) كسر هذه القاعدة التقليدية في برامج الـ (توك شو) وقدم نفسه وأسرته كبرنامج جديد ومميز استطاع أن يفرض نفسه كوجبة أسبوعية ترفيهية وتثقيفية وتوعوية .... يشاهدها الكثير من الناس داخل السعودية وخارجها .
طبيعة البرنامج
يكمن تميز هذا البرنامج، في كونه صبغ برامج الـ(توك شو) صبغة محلية خالصة، متفردا في الأسبقية وطريقة التقديم ونوعية الطرح، وذلك يعود إلى أسباب عدة، أهمها .... تلقائية البرنامج .... فهو برنامج يبث حيا على الهواء مباشرة، وهذا يزيد من أعباء العاملين عليه، ويرفع من نسب المخاطرة في احتمالية ورود خطأ لا يمكن إصلاحه عاجلا أو آجلا، يأتي بعد ذلك المقدم علي العلياني، فهو كالمايسترو الضابط لجوقته الموسيقية لتعزف لحنا ينسجم وطبيعة الحدث، فيشنف الأذان بروائع إبداعية تشكل في مجملها شخصية هذا المذيع، الذي أضاف ورسخ بعدا إبداعيا جديدا في أدب الحوارات المتلفزة . العلياني لا يقاطع ضيفه و لا يحاول أن يمارس دور البطل الذي يمسخر ضيفه، العلياني استثناء في الحضور والتجربة، شاهد ذلك حالة الانسجام الواضحة بينه وبين ضيفه (العرفج)، وهو ما يضيف للبرنامج بعدا جماليا آخر لا يقل عن مضامينه الإبداعية الأخرى.
أما العرفج وهو محور هذا البرنامج وعموده الفقري، فيظل أيقونة الإبداع والنجاح لهذا العمل الأسبوعي الجميل، يدلف العرفج إلى استديو البرنامج كعريس محتفى به، تصاحبه ابتسامة تلقائية بعيدة عن التصنع، لغته بسيطة، ولكنها مركزة في محتواها العلمي والمعرفي، حضوره طبيعي وتلقائي وكأنه يجسد مقولة (كن نفسك)، مما يجعل المشاهد أيا كان توجهه أو مستواه الثقافي، يتقبل العرفج الإنسان، قد يختلف ويتفق معه، ولكنه أي (العرفج) يظل حضوره حدثا أسبوعيا ترصده الأغلبية ليكون نتاجه أجندة الناس الأسبوعية والحياتية التي يناقشونها في منازلهم وأماكن عملهم
يتميز العرفج انه غير المسارات التقليدية للمثقف ومدارات حراكاته المجتمعية والعملية، فالمدار المرتفع والبعيد عن إنسان المجتمع والذي وضع المثقف السعودي نفسه فيه .....تنازل عنه العرفج ليلامس ذائقة المشاهد ويشاطره إحساسه، كل ذلك أكسبه قربا بالإنسان وفهم حراكات حياته المختلفة، وفي الوقت ذاته ما زالت مضامينه الإبداعية حاضرة وبقوة، وهنا يكمن تميز العرفج وتفرد البرنامج ......
فقرات البرنامج
يزخر البرنامج بالعديد من الفقرات الجميلة والمفيدة، ففقرة كتاب الأسبوع، يعرج فيها العرفج على كتاب مثير، ليس بالضرورة أن يكون جديدا أو لكاتب مشهور، بل إن اختياره للكتب، يعتمد على شهرة الكتاب وذيوع صيته في الأوساط المختلفة، فمرة تناول كتاب (الرجال من المريخ والنساء من الزهرة ) لمؤلفه (جون جراي) - في نسخته المترجمة عن مكتبة جرير - كان استعراضه للكتاب وفصوله وموضوعاته رائع جدا، وكانت إسقاطاته التعبيرية على المجتمع رجالا ونساء أكثر روعة، وهنا تكمن فائدة الفقرة وجمال عرضها، مما يجعل المشاهد يسأل نفسه :-لماذا لم أقتنِ هذا الكتاب حتى الآن.
بعد ذلك تأتي قصيدة الأسبوع، وهنا تظهر ملامح كثيرة من رومانسيات العرفج، والتي يجليها اختياراته للقصائد الجميلة غزلا كانت أم إنسانية بشكل عام، وقد تتطور الأمور فيستعرض قصيدة جدلية ذات أبعاد سياسية خطيرة، كما فعل في قصيدة القصيبي ذائعة الصيت (رسالة المتنبي إلى سيف الدولة)، وهنا يفاجئ المشاهد الصغير في العمر بهذا الشاهد الأدبي الرائع والجميل لمرحلة مهمة من تاريخ أدبنا السعودي المعاصر.
بعد ذلك تأتي مقولة الأسبوع، وتكون عادة مما يثار في شارعنا الحياتي من كلمات وتعابير إنشائية يقتنصها العرفج ويسبغ عليها شيئا من مدلولاته التعبيرية الجميلة، ليصبح المصطلح الشائع أكثر شهرة، بل ربما يعيد العرفج صياغته وإعادة تعريفه ليصبح لزمة كلامية وتعبيرية في حياة الإنسان البسيط. كثيرة هي الكلمات التي استعرضها العرفج وكثيرة هي الإسقاطات التي استخدمها من خلال تلك التعابير، كل ذلك يؤكد علو كعب العرفج في إعادة تدوير كثير من المصطلحات الكلامية والتعابير الإنشائية لتصبح جذورا وموادا لسانية تروج في حياة الإنسان اليومية .
أما فقرة مقال الأسبوع
فتعد من وجهة نظري من أصعب الفقرات على العرفج وأمتعها للمشاهد، ففي هذه الفقرة يمارس العرفج هوايته النقدية لهذا الكاتب أو ذاك، متسلحا بقاعدة بيانات معلوماتية خطيرة تشمل السواد الأعظم من الكتاب، فمتابعته الدائمة لزملاء الكار والمهنة أكسبه قدرة على إعادة قراءتهم وفق مضامين برنامجه وأهدافه الإعلامية .
فعندما يتحدث عن (الصويغ عبدالعزيز)، لا يخفي إعجابه بنتاجه الكتابي وكذلك يشير إلى لغته الدبلوماسية الرصينة والمؤدبة التي عكستها تجربته في هذا السلك أعواما عديدة، كذلك يشير في لفتة جميلة، إلى انعكاس النيل وسمرته على كتابات الصويغ المختلفة. وفي مقام آخر يعيد قرآه (يوسف أبا الخيل) ككاتب رأي لا يشق له غبار، ويشير إلى الجهد الكبير الذي يبذله الكاتب لإخراج نتاجه المعرفي، ودقة معلوماته التي تضفي على الكاتب بعدا مصداقيا آخر.
وللنساء حضور في هذه الفقرة، فكاتبة سعودية أخرى - لا يحضرني اسمها - أعاد العرفج تشريح مقالاتها، ولكنه هذه المرة استخدم توصيفا في غاية الجمال والأناقة ليقول:- (هذه الكاتبة تختار كلماتها بعناية وكأنها تقطف من بستان اللغة أجود أزهاره وأينع ثماره). وهذا بعد جمالي آخر يحسب للعرفج وللبرنامج يتلمسه المشاهد ويعجب به ويطرب له.
الأصداء والتأثيرات
لا أحد ينكر شعبية (ياهلا بالعرفج) ولا أحد ينكر ريادته وسبقه في تغيير نمطية كثير من الصور المألوفة في مشهدنا الحياتي. يكمن تميز (ياهلا بالعرفج) في كونه صنع قالبا جديدا للثقافة والفكر والمتعة في واقعنا السعودي، هذا القالب أو الوعاء صار ماركة مسجلة للعرفج ولفريق البرنامج. فكرة البرنامج خلاقة وسباقة في مضامينها الإبداعية وطرائق عرضها، المثقف في مجتمعنا السعودي ما زال يعيش في أبراجه العاجية، ومازال الناس من وجهة نظره سطحيين مستهلكين لكل شيء، لذلك يصعب على المثقف أن يتنازل عن كبريائه وينزل لمستويات العامة، حتى وإن أراد ذلك، فإنه يظل أسيرا لنمطية البعد والعلو والتميز.
لكن العرفج كسر تلك القيود وخاطب الإنسان بلغة بسيطة في شكلها عميقة في مدلولاته وشواهدها زاخرة بالكثير من الرسائل الفكرية والإبداعية الخلاقة، أصبح المشاهد يعتبر (ياهلا بالعرفج) مرجعا أسبوعيا يؤرشف فيه حراك المجتمع وإنسانه، ينهل منه الإنسان ويستقي شواهده التي يتكئ عليها في جدلياته وحواراته الحياتية القادمة مع أخ أو صديق أو شريك حياة، إضافة إلى قدرة هذا البرنامج على إيصال كثير من الرسائل الجريئة إلى المسؤول، رسائل ما زال الرقيب يعتبرها مناطق محرمة يصعب الاقتراب منها فضلا عن ملامستها.
لكن يا هلا بالعرفج وسع هامش الحرية ورفع سقفها من خلال طرح مؤدب ومدروس لهموم الناس ومشاكلهم، وهذا أكسب البرنامج وضيفه والعاملين عليه شعبية كبيرة وقبولا أكبر لدى المواطن والمسؤول.
العرفج ..... كاتبا وضيفا تلفزيونيا
منذ فترة ليست بالقصيرة وأنا أتابع العرفج الكاتب عبر محطاته الكتابية المختلفة، واليوم أضاف له تواجده التلفزيوني حضورا آخر، شخصيا....لا أرى اختلافا كبيرا بين شخصيتي الكاتب والضيف التلفزيوني، بل أرى كلا الشخصيتين تكملان بعضهما وتشكلان في النهاية شخصية عامل المعرفة (أحمد العرفج).
عندما تتابعه كاتبا فإنك ستشعر أنك أمام ذلك الضيف الأسبوعي، لا فرق مطلقا بين الشخصيتين، فكلتاهما (الشخصيتان) تتفقان في المبدأ ووحدته وهذا يجعله وفي كل مرة يقدم فكرة متماسكة، ليس بالضرورة أن تحمل إجماعا من الجميع، ولكنها - الفكرة - تصبح محور جدل ونقاش من الجميع وكأنه - العرفج - كالمتنبي في شطره الشهير (ويسهر الخلق جراها ويختصم).
وهنا تتجلى قدرة المبدع على إحداث الحراك وتحريك المياه الراكدة، وهو ما يميز العرفج ليجعله أيقونة الفرح والمتعة في إعلامنا المحلي بوجهيه المقروء والمشاهد.
حضور مثير، وألق مستمر، وخطى حثيثة للبقاء صورة حية وجميلة في قلوب المتابعين وعقولهم
العرفج وتسليع المصطلح
لعل من مميزات العرفج الجميلة تسليعه لبعض المصطلحات الموغلة في الغموض والغرابة أو الموغلة في المحلية ، وجعلها رائجة دارجة على ألسنة العوام والمثقفين وإنصافهم بعد أن يقوم بإعادة تصححيها أو تدويرها وتطعيمها بكلمات أخرى لتصبح مصطلحات ذات قيمة معرفية وثقافية عالية....
فمصطلح مزايين الكتب جاء على غرار مزايين الإبل ولكنه -العرفج- أخرج المصطلح من محليته الضيقة وأضفى عليه طابعا ثقافيا عندما قرنه بالكتب، مصطلح داعب مشاعر الناس ولامس جزءا من مشاهداتهم اليومية لمهرجانات الإبل ومسابقاتها.
وللمعرفة كمصطلح نصيب أيضا من ممارسات العرفج الإبداعية، فعامل المعرفة الذي اتخذه العرفج عنوانا وهوية يسبق اسمه، جاء ليرسخ ريادته في تسليع المصطلح وزيادة شيوعه بين الناس، ليصبح لقب (عامل المعرفة) مرتبة عليا تضفي على البعض بعدا ثقافيا آخر يفوق مصطلح المثقف الذي يبدو أنه يعيش مراحله الاستخدامية الأخيرة في ظل شيوع مصطلح العرفج الجديد (عامل المعرفة).
ومن الشيوع والتسليع يأتي العرفج ومن خلال سلطته الإبداعية إلى تحجيم بعض المصطلحات الأخرى ووأدها وكأنه جهة رقابية صارمة تصادر بعض السلع التي لا تلتزم بالمواصفات والمقاييس الحياتية والأخلاقية، فمصطلح (مبروك) كشف العرفج كنهه اللغوي وعراه كمصطلح له أبعاد لغوية سيئة لاتناسب الذوق ولا تفي بالغرض ليصبح بعد التدوير والتمحيص (modification) مبارك عليك، ليؤكد العرفج كعامل معرفة أن كعبه اللغوي عال جدا وأن فراسته وبعد نظره تساعده على تدوير كثير من المصطلحات وقولبتها في صيغ وقوالب كلامية أروع وأجمل وأجدى.