يُرجع بعض المراقبين عودة النميري إلى الإسلام لعلاقته الروحية، في بداية السبعينيات بطريقة (أبو قرون) الصوفية التي اعتبرت القرن الخامس عشر الهجري كنقطة تحول في تاريخ الإسلام. وكانوا يعتقدون بـ (عودة ثانية) للمهدي العظيم الذي يريد أن يكون واحداً من أتباعها. وصف الوزير السوداني السابق فرانسيس دينق، في روايته السياسية، (بذرة الخلاص)، لقاء الرئيس مع الله، الذي أمره بإصلاح حياته والعودة إلى المسار الحقيقي للمؤمن. وفي الصباح التالي أرسل (الرئيس منير) طالباً حضور زعيمه الروحي المحلي من أجل الحصول على نصحه:
قال الصوفي: (السيد الرئيس، - من خلال الكشف عن نفسه- فمن الواضح أن الله قد اختارك لتكون زعيم هذا البلد. أنت الرئيس ولكن أنت أيضاً الإمام المعين من الله. وهو سيغيرك كما يريد. القدرة على تحويلك نزلت بالفعل من عند الله)(3) و(4).
وفي وقت سابق وضعت لجنة خاصة (لجنة مراجعة القوانين لتتماشى مع الشريعة الإسلامية)، تحت رئاسة زعيم الإخوان المسلمين، حسن الترابي. وتهدف اللجنة، كما يوحي عنوانها، إلى تنقيح جميع القوانين السودانية لتتوافق بالكامل مع الشريعة الإسلامية، وبدأت عملها في وقت مبكر من عام 1977. وصاغت سبعة مشاريع قوانين لقضايا مباشرة كـ حظر المشروبات الكحولية، وحظر الربا والمقامرة. وصاغت أيضاً مشاريع قوانين أخرى تتعلق بتنفيذ جرائم الحدود المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية كـ القتل والسرقة والزنى، وغير ذلك، ولكن الأهم كان مشروع قانون بشأن (أصول الأحكام القضائية) لأنه يتعلق بتطبيق الشريعة في جميع المسائل التي لا يشملها تشريع آخر. ولكن النميري لم يكن مستعجلاً لتطبيق تلك القوانين. وفي الواقع، خلال السنوات الخمس الأولى من عمل اللجنة، لم تتم الموافقة إلا على مشروع قانون دفع الزكاة ربما لأنه كان الأقل جدلاً(5).
وبعد الموافقة بالإجماع على المسار الإسلامي من المؤتمر الوطني للاتحاد الاشتراكي السوداني، بدأت عملية التشريع الفعلية بشكل جدي في شهري يوليو وأغسطس 1983، عندما عين النميري لجنة جديدة مؤلفة من ثلاثة محامين من الموالين له وعهد إليهم بمهمة تحويل النظام القانوني السوداني إلى نظام إسلامي(6). التشريعات التي صاغتها هذه اللجنة، تعتمد - جزئياً - على مسودات سابقة من لجنة الترابي، تم إقرارها عبر مراسيم جمهورية مؤقتة وصادق عليها، من دون أي نقاش، مجلس الشعب في نوفمبر 1983، خلال جلستين قصيرتين. وكان أهمها (أصول الأحكام القضائية) الذي ذكرناه آنفاً، التي مهدت الطريق لتطبيق الشريعة. إضافة إلى ذلك، تم سن كل من: قانون العقوبات الجديد؛ وقانون الإجراءات الجنائية؛ وقانون الإجراءات المدنية؛ وقانون المعاملات المدنية، لتسهيل التنفيذ العادل والسريع للحدود المنفذة حديثاً.
تبرير مدهش:
سيصبح السودان خالياً من الجريمة!!
العملية الفعلية التي وضعت عبرها أسس الدولة الإسلامية شرحها النميري في خطابه الافتتاحي لمؤتمر إسلامي عالمي في الخرطوم في 22 سبتمبر 1984. وفي تبريره للتدابير الجديدة، ألمح النميري لأسباب (عملية)، حيث أشار إلى أن معدل الجريمة في السودان قد ارتفع إلى مستوى أثبت أن جميع التدابير السابقة كانت غير فعَّالة؛ ففي السنة التي سبقت تطبيق الحدود، ارتكبت تقريباً 12.500 جريمة قتل أو شروع في القتل، في حين أن عدد السرقات قد ارتفع إلى 130.000 تقريباً.
ووفقاً للنميري، فإن معدل الجريمة انخفض نتيجة للعقوبات الإسلامية الجديدة بنسبة تزيد على 40% في سنة واحدة! ولذلك - يقول النميري - فقد (ثبت الأثر الرادع للحدود بما لا يدع مجالاً للشك، ومن المحتمل أن يصبح السودان قريباً خالياً من الجريمة)! ولذلك فإن جوهر تنفيذ الشريعة - بحسب النميري - كان إنشاء الفرد (الصالح) ما سيؤدي في النهاية إلى تحقيق مجتمع عادل، على النحو الذي يحدده الإسلام.
وعند الانتقال إلى المجال الاقتصادي، أرجع النميري بفخر (النجاح) لقانون تنفيذ الزكاة والضرائب؛ فبعد فرضها قانونياً، أصبحت الزكاة قلب الاقتصاد السوداني لأنها كانت أحد أركان الإسلام، لتمكين الفقراء من الحصول على نصيبهم الشرعي من الدخل الوطني. وبالنسبة إلى غير المسلمين، تم فرض ضريبة مماثلة عليهم. ولا تزيد - في أي حال من الأحوال - الضرائب على الدخل الفردي على 2.5%، في حين أن الضريبة على أرباح رأس المال لا تزيد على 10%. ونتيجة لهذه (الضرائب الخيرة) (الصالحة)، استطاع السودان - وفقاً لنميري - جذب استثمارات ضخمة من الأسواق الخارجية وكذلك من رواد الأعمال (Entrepreneurs) المحليين. وأخيراً، كرس النميري جزءاً من خطابه لمشكلة الجنوب، والتي، في رأيه، كانت نتيجة لمؤامرة إمبريالية. بالنسبة إليه، لم تكن مسألة صراع ديني لأن عدد المسلمين في الجنوب أكثر من المسيحيين، وكانت الغالبية العظمى من السكان ليسوا من المسلمين ولا المسيحيين ولكن يتبعون دياناتهم الأصلية الوثنية الخاصة. ولذلك، لا يترتب على تطبيق الشريعة أية آثار سلبية بالنسبة إلى الجنوب، حيث سيتمكن الجميع من ممارسة طقوسه الدينية بحرية ومن دون تدخل الدولة(7).
النميري هو المفسر (الوحيد) للقوانين!!
وفي واحدة من آخر مقابلاته، زعم النميري أنه كإمام للسودان، يجب أن تكون الطاعة الكاملة له كما يمليه الإسلام، وهو (وحده) الذين يمكنه تفسير القوانين وتحديد ما إذا كانت تتماشى مع الشريعة؟ وباستعماله لقب (الإمام)، وهو لقب غير مألوف في الإسلام السني المعاصر، بدا وكأنه أغري من قبل السلطات الشاملة للإمام الشيعي آية الله روح الله الخميني في إيران(8). ويمكن أن تُعزى فكرة (الإمامة) التي ادعاها النميري إلى الأيديولوجية المهدية. أولاً، لا يمكن للمرء تجاهل التشابه مع مظهر من مظاهر محمد أحمد كمهدي في يونيو 1881. ثانياً، ادعى الصادق المهدي، حفيد المهدي، أن المهدية في أصولها التي تعود إلى القرن التاسع عشر والعصر الحالي، هي بمثابة جسر بين الشيعة والسنة. وبالتالي أضفى الشرعية عن غير قصد لادعاء النميري لمفهوم شمولي من القيادة الشيعية(9).
من الصعب تقصي الحقائق في ما يتعلق بمزاعم النميري حول انخفاض عدد الجرائم المرتكبة في السودان في عام 1985، لأنه لا يبدو أن هناك أي دليل إحصائي مستقل يمكنه دحض أو تأكيد هذا الزعم.
نتائج كارثية وضربة قاضية للاقتصاد!!
ولكن في المجال الاقتصادي، يمكن بسهولة للغاية تفنيد مزاعم النميري، لأن سياساته كانت كارثية وذات عواقب سلبية بعيدة المدى؛ ففي عام 1983 كان السودان قد بدأ يتعافى اقتصادياً نتيجة للمساعدات الخارجية الضخمة والتخطيط الاقتصادي الدقيق. ما يسمى بـ (الاقتصاد الإسلامي) أَوقف وعطل عملية تعافي الاقتصادي السوداني هذه. أَلغى قانون المعاملات المدنية لفبراير 1984 (المسؤولية المحدودة) (Limited Liability)، ورسوم الفوائد على جميع المعاملات التي لا تنطوي على مصالح أجنبية. وتعزّز عدم الثقة في الاقتصاد المهتز. والأكثر كارثية كان قانون الزكاة والضرائب في مارس 1984، حيث تسبب في وقف الإيرادات (الضخمة) من الضرائب المفروضة سابقاً تقريباً، وكان القانون الجديد غامضاً لدرجة أنه تعذر تنفيذه.
الإيرادات الوحيدة التي تم جمعها كانت 2.5% فحسب على المداخيل الشخصية التي تتجاوز 200 جنيه سوداني (تعليق المترجم: أي 154 دولاراً شهرياً في ذلك الوقت، وحالياً -في عام 2014- ما يعادل 50 دولاراً شهرياً. انتهى تعليق المترجم). الضربة القاضية للاقتصاد المتعثر كانت بسبب أسلمة النظام المصرفي في ديسمبر 1984، الذي نُفذ بالرغم من التحذيرات المتكررة من بعض أقرب المستشارين للنميري. الأزمة الاقتصادية الحادة التي بشر بها قدوم العام الجديد كانت - جزئياً على الأقل - ناجمة عن ما يسمى بـ (السياسة الاقتصادية الإسلامية)(10).
الأنصار والخصوم
بدأت علاقة النميري الوثيقة مع جماعة الإخوان المسلمين في عام 1977، عندما عاد حسن الترابي ورفاقه إلى النشاط السياسي في أعقاب (المصالحة الوطنية). وكرئيس للجنة الشؤون التشريعية ولاحقاً بصفته النائب العام في السودان، كان الترابي في وضع يمكنه من التأثير على سياسة الحكومة لمدى يتجاوز القوة السياسية (الفعلية) لجماعة الإخوان المسلمين، التي كان أنصارها في ذلك الوقت هم مجموعة مهمة ولكن صغيرة نسبياً من النخبة الحضرية. من كان الإخوان المسلمون، ولماذا كان تعاونهم مهماً جداً للنميري عندما انطلق بالمسار الإسلامي؟ بالرغم من أن مصالحة عام 1977، تم التوصل إليها مع الصادق المهدي، إلا أن مناهضة النميري للطائفية لم تهدأ على مر السنين. وكانت جماعة الإخوان المسلمين حليفة طبيعية له، لأن مستقبلهم السياسي يتوقف على نهاية التفوق الطائفي (الذي يتمتع به الأنصار والختمية). لقد ناصروا قيام الدولة استناداً إلى الشريعة الإسلامية، قبل انقلاب مايو 1969، بوقت طويل، وسبق لهم التعاون مع (الأنصار) في صياغة دستور إسلامي للسودان(11). وفي مؤتمر(الإسلام في السودان)، الذي عقد في الخرطوم من قبل (جمعية الفكر والثقافة الإسلامية) في نوفمبر 1982، أصر الترابي على أن إصلاح القوانين السودانية، لتتوافق مع الشريعة كانت المهمة الأكثر إلحاحاً التي تواجه البلاد. وبالرغم من أن البيان الختامي للمؤتمر كان يتفق بصورة عامة مع أفكار الإخوان المسلمين، إلا إنه دعا إلى إصلاحات اجتماعية أساسية ينبغي أن (تسبق) التنفيذ التدريجي للشريعة. وتم خرق تعهد الترابي للعمل ضمن هذا الاتفاق بعد أقل من عام عندما قال الترابي علناً إنه يؤيد تنفيذ النميري للقوانين الإسلامية فوراً(12).
تحالف لقتال الأعداء السودانيين العلمانيين!!
هذا التعاون تم تبريره من زميل الترابي عضو الإخوان المكاشفي طه الكباشي، في كراس بعنوان (تطبيق الشريعة في السودان بين الحقيقة والإثارة). بالنسبة إلى الكباشي وغيره من أصحاب وجهات النظر المماثلة، لم يكن هناك أبداً أي شك بأن تنفيذ الشريعة كان يتطلب - ضمنياً - أن ينتج منه وضع (دوني) لغير المسلمين كافة، وحتى القوات المسلحة السودانية وفقاً لذلك ستصبح (جيشاً إسلامياً) يقاتل أعداء الإسلام بما في ذلك (الشيوعيون، الصليبيون، الصهاينة، الماسونيون)، أو مؤيدوهم السودانيون (أي العلمانيون) وسيتم كل ذلك تحت راية حكم الإسلام(13).
كان الأنصار (النيو مهديين) هم أكبر طائفة سودانية والأفضل تنظيماً، وعشية الاستقلال، بلغ عددهم أكثر من 3 ملايين. وبناء على ذلك، كانت طاعتهم التامة لإمامهم في المسائل الدينية والسياسية تعتبر عقبة رئيسة تحول دون ظهور ديمقراطية حقيقية في السودان. ومنذ اغتيال عمه، الإمام الهادي المهدي في مارس 1970، أصبح الصادق المهدي يؤدي دوراً مزدوجاً كإمام لطائفة الأنصار (بالنيابة) وكزعيم لحزب الأمة.
يتبع في الأسبوع المقبل بحول الله