(قوارير) ديوان شعر جديد للشاعر السعودي محمد الجلواح، عضو مجلس إدارة نادي الأحساء الأدبي، وقد اشتمل على 58 قصيدة تسبقها مقدمة طويلة جدا، وقد عنونها الشاعر بعنوانين هما :
حكاية القوارير
مقدمة طويلة لقصائد قصيرة.
والمقدمة من وجهة نظري طويلة فعلا أكثر من المطلوب قياسا للقصائد القصيرة أو (المقطوعات) بالأحرى.. المتراقصة قِصَرا في الديوان، فالقارئ الذي ينتظر الاطلاع على قصائد الديوان، قد يضطر إلى تجاوز قراءة هذه المقدمة،وقد لا تعنيه - على سبيل المثال - تلك الأمثلة التاريخية الكثيرة التي ساقها الشاعر عما قاله الشعراء العرب الذين ذكروا أسماء النساء في قصائدهم.. لكنه - أي الشاعر محمد الجلواح - برر ذلك في نهاية المقدمة أنه ليس بِدْعا عنهم .. فهو أحدهم - كما يقول -. ومع ذلك فقد استمتعتُ كثيرا بقراءة قواريره وما حَمَلَتْهُ من صور متعددة ومَقْدِرَة شعرية لدى الشاعر، وسأستعرض ما التقطتُه من هذا الديوان عبر هذه القراءة الانطباعية المجردة:
فأول ما أبدا به قصيدة (مليحة) التي حملت بعض التعبيرات الشعرية الجميلة التي أبدعها الشاعر كقوله:
مُرّي على القلب الذي قد ضاق بالدنيا الفسيحة
لُمّي رمَاد سنينهِ واستلقطي منه جروحه
يا مبضع الحب الكبير إليك أحرفيَ الصريحة
(يا مبضع الحب)المِبْضَعُ هو المِشرَطُ الذي يستخدمه الطبيب الجراح لإزالة الجزء المؤذي من جسم المريض، وقوله (مبضع الحب) تعبير جديد، وجاء متوافقاً مع كلمة (جروحه) في البيت السابق.
ويقول في قصيدة (وجيدة ) :
يا ابنة البحر يا خزامى الصحاري
يا اخضراراً فوق الروابي السعيدة
لقد جمَع الشاعر هنا بين أطراف الجمال، فقد جمع بين البحر والنبات العطري في الصحراء، وخصوبة الروابي باخضرارها المتمثل في أشجارها ونباتاتها وأعشابها، وأضافت الصفة (السعيدة) كثيراً من الإيحاء لجمال تلك الروابي.
ويحدث الشاعر نفسه بعبارات شعرية معبّرة فيقول في قصيدة (لمياء) :
أستغفر الله إن بالغتُ في غَزَلي
هل كان ذا غزَلاً ؟ ما كان ذا غَزَلا!
ويوضح الشاعر أن الناس تحلو في عين العاشق فيقول في قصيدة (رابحة) :
تذوب عيوني في عيونكِ كلما تلاقت
فيحلو الناس واليوم والغدُ
فهاهم الناس والزمان متمثلا في الحاضر والمستقبل جميعها تحلو في عيون العاشق حين يكون سعيداً مع من يعشقها. وتتألق قدرة الشاعر حين يقول في قصيدة (سهاد):
سافر الحرفُ بإبداع الألى نحوَ (بغداد) وما بين (السواد)
لقد أحسن الشاعر باستخدام لفظ (السواد) فإن سواد العراق هي مزارعهُ وحقوله، وتوافق لفظ السواد مع لفظ الحرف، فالكاتب يسوِّدُ الصفحات بحبر حروفه التي يسطرها.. ويقول شاعر القوارير في قصيدة أميرة :
يا اشتياق الصب في آمالهِ
وابتسام الطفل في الوجه الحزين
لقد التقط الشاعر لحظة إنسانية مؤثرة .. فإن ابتسام الطفل ينهي أحزان من ينظر إليه، وقد عبر عن سعادته بتلاقيه مع حبيبته تعبيراً إنسانياً رائعاً.
ويقول في قصيدة (أنا صريع .. الغواني) :
أنا.. صريع الغواني لا (مسلمُ بن الوليد)
فكم صُرِعتُ لِحُسْنٍ أَدْمَى وريدَ الوريدِ
لقد عبّر تعبيراً شعرياً رائعاً بقوله )أدمى وريد الوريد ) عن مدى عمق الجرح وما سببه له من الآلام، ويقول في القصيدة ذاتها:
رقيقةٌ.. كنسيمٍ جديدةٌ.. كوليدِ
إن أعظم مظاهر الجِدّة تتجلى في الوليد الجديد، فإن كل ما فيه جديد، بوجوده الجديد في الحياة، وبكل الصفات التي خُلِق بها، وقد وُفّق الشاعر أيما توفيق في وصف قصيدته بالوليد حيث إن كل ما فيهما جديد.. استخدم الشاعر صريع الغواني (المعاصر) محمد الجلواح.. الأمثال في قوله مشيراً إلى المثل القائل (عاد بخُفي حُنين) :
في كل قصة حب أغدو كقشرٍ بعودِ
أعودُ مثل (حنين) مخضباً... بالوعيد ِ
إنه لا يعود خالي الوفاض فقط، وإنما يغطيه الوعيد بما سيلاقي من أذى إنْ هو عاد الإعلان والكشف عن حبه مرة أخرى، وجعل الوعيد مثل الخضاب الذي يكسوه، ولا يزول بسهولة. واستخدمَ الشاعر الحكمة في قوله في قصيدة (نسرين):
سَكَبَتْ من العينين سحراً فاتناً
سحر العيون على القلوب مكينُ
ويقول أيضاً في قصيدة (نجلاء):
ليس عند العشاق كتمان عشقٍ أسوَأ العشق ما اعتراه الضمورُ
ومما يضاف إلى رصيد الشاعر أيضاً أنه استخدم نحت بعض الكلمات، ومثال ذلك قوله في قصيدة (صباح الورد):
ويا لحناً تُمَوسِقُهُ رموش الشوق في مُقََلي وقوله في قصيدة (أنا صريع.. الغواني):
ما أروعَ العشق يأتي بكل مَسٍّ جديدِ
يُكهربُ الوجهُ روحي لفاتناتٍ.. وخودِ
إن الفعلين (يموسق، ويكهرب) لم يكونا موجودين في اللغة وإنما تم نحتها من لفظي الموسيقى والكهرباء، ولا نزعم أن الشاعر هو أول من نحت هذين الفعلين، بل سبقه غيره إليهما. لكنهما جاءا في مكانهما الصحيح حيث وظفهما الشاعر توظيفا مناسبا لسياق المعنى.. ويعد تكرار اسم المعشوقة من الظواهر اللافتة في بعض قصائد الشاعر محمد الجلواح، مثال ذلك قوله في قصيدة (ثريا):
وحين أراك يا حلماً بقلبي
سيشتعل الفضا ورداً ندياً
مضى نبضي يردد في جنونٍ
ثريا.. ثريا.. يا ثريا
ويقول أيضاً مكرراً اسم الحبيبة في قصيدة (سناء):
أردد كلما تاهت دروبي
سناءٌ.. يا سناءٌ.. يا سناءُ
ويقول في قصيدة (أم راكان) مكرراً اسمها في مستهل القصيدة:
أم راكان سلاماً أم راكان.. تحية
ويقول في قصيدة (سهاد):
أنا أهواك فكوني ملجئي
من عباب البحر أو حر الوهاد
دمتِ بين الثلج حضناً دافئاً
يا سهاداً.. يا سهاداً.. يا سهاد
وأتى الشاعر بالتكرار أيضا في الجمل - بعيداً عن اسم الحبيبة ، ومثال ذلك قوله في قصيدة (لمياء) حيث كرر جملة (كان ذا غزلا) فقال :
أستغفر الله إن بالغتُ في غزلي
هل كان ذا غزَلاً ؟.. ما كان ذا غزلا
وسنجد أن شاعر القوارير.. استخدم بعض الظواهر اللغوية في شعره مثل استخدام المقابلة، ويتضح ذلك - على سبيل المثال - في قوله في قصيدة (خنساء):
أشدو بلحنٍ (كويتيّ) لأمطرها على الربوع، فيشدو الصمتُ بالصخبِ فالشاعر هنا لم يقابل بين الصمت وضده الذي هو الصوت، وإنما قابل بين حالة الصمت وحالة الصخب التي تعلو فيها الأصوات فكان موفقاً في اختيار اللفظ المناسب..
كما استخدم الشاعر أيضاً المشترك اللفظي حيثُ تُستخدم كلمة بأكثر من معنى، يقول في قصيدة (عزيزة):
لا تقولي ذليلة.. بل عزيزة
وستحيين كالجُمان عزيزة
أنت في قلب شاعرٍ وحبيبٍ
يتمنى لك الحياة العزيزة
كل يوم إليك يسلك درباً
فامنحيه عبورهُ يا.. عزيزة
جاءت لفظة (عزيزة) بأكثر من معنى، فاللفظة الأولى في نهاية الشطر الأول جاءت بمعنى العزة الذي هو عكس معنى الذل، واللفظة الثانية جاءت بمعنى غالية الثمن، وعزيزة المنال لأنه سبقها بقوله: (كالجمان) والجُمان هو اللؤلؤ، وهو أيضا حَبّ يصاغ مع الفضة على شكل اللؤلؤ، والعزيزة في البيت الثاني جاءت بمعنى الحياة الكريمة، أما عزيزة الأخيرة فهي اسم المحبوبة. أما الصورة الشعرية فهي من الظواهر الفنية التي تجلت في قصائد الشاعر, وفي ظني أن التصوير الفني هو الذي يشير إلى قدرة الشاعر على الابتكار في مجال الخيال. يقول في قصيدة (ولادة أخرى):
يوشوش صوتها سمعي فتأتي
أحاديثُ بروحي أفتديها
تسامرني (بهمسٍ قرمزيٍّ)
رقيق، لم يكن قَطّ كريها
هذا الهمس القرمزي يمثل أكثر من صورة شعرية يشعر بها المتلقي، فهي صورة فكرية وليست صورة حسية، وهي في مجرى صورة الشاعر القديم حين قال (إن العشق أحمر) معبّراً عن مدى تأثيره في النفوس، وهي أيضا صورة ذهنية تتحلى بكثير من وجوه الإبداع ويقول في قصيدة (أسماء بن قادة) :
أأميرةَ الحسن الأصيل ترفقي
بالكأس ينقُصُها فُراتُ الماءِ
دُلّي على الدرب القويم قوافلاً
فَرّتْ من الصحراءِ للصحراء
صورة معبّرة بحق ,ولنا أن نتخيل تلك القوافل التي يصاحبها الظمأ، فهربت من الصحراء، لكنها لم تجد ما تبغيه من ري في المكان الذي فرت إليه، فهي قد فرت من الصحراء إلى الصحراء ,وكأنها فرت من ظمأ إلى ظمأ جديد.
ويقول في قصيدة (الثلج والنار):
أرسلتُ (ناراً وثلجاً) إلى التي أحرقتني
النار تأكل عمري والثلج يشرب ظني
لقد أرسل الشاعر ناراً وثلجاً إلى حبيبته التي أحرقته ببعدها أو بهجرها أو كلامها الحارق، لكن ما أرسله لها قد انعكس عليه، فإن النار تأكل عمره، وهي ليست بالصورة الجديدة. إنما الجديد أن الثلج يشرب ظنه، إنه المحترق والثلج حين يشرب ظنونه في حبيبته وشكوكه فيها فهو يهدئ من نار الاحتراق، وقد أحسن الشاعر وأجاد في هذه الصورة البديعة.
وأبدع الشاعر عدداً من الصور الشعرية ذات الظلال الإبداعية الوارفة، مثال ذلك قوله في قصيدة (سناء 2) حيث يقول:
سافري عبر وريدي قمراً
وخذي روحي لعينيكِ فداء
نورس أنت وقلبي شاطئ
يتلقاك صباحاً ومساء
ويقول في قصيدة (خنساء):
نقشتُ في مشهد الأحلام صورتها
مغروسةً بين جفن العين والهدبِ
ويقول في قصيدة (اللقاءان اليتيمان) :
( لقاءان ) كالبرق السريع تلاشيا ولكن بوشم الجلد قد وشما عيني
لقد عبر الشاعر عن اللقاءين اليتيمين أنهما بقيا في ذاكرته وعينه لا يزولان، تماما كما يبقى الوشم الذي يرسم على جلد الإنسان، فأظنه يقول أن هذين اللقاءين موشومان في عينه وذاكرته لم يبرحا عنها.. كما لو كانا وشما على الجلد، فلا تزول رؤيته عنهما أبداً. ويجعل حبيبته تسكنه في قصيدة (سهاد) فيقول:
هل هو الحب الذي فارقته
قد أعادته إلى الدنيا (سهاد)
أنعميه الرد يا ساكنتي
وأريحيهِ.. وإن زاد وعاد
ويقول في قصيدة (بقعة الحب):
اكتبيني نقطةً من كِلمةٍ
واسجنيني في السياجِ الآمنِ
أرسلي من بقعة الحب
ولو حرف نسيانٍ بلونٍ داكنِ
ونشير إلى أن الشاعر محمد الجلواح قد أحسن استخدام الحروف، فأوجد بواسطتها موسيقى في أبياته الشعرية، مثال ذلك استخدام الحروف المتكررة في قصيدة ( هبة ) حيث كرر حرف السين أربع مرات في قوله:
تقول لكل النساء الحسان
أنا الحسن في كل حسن ظهر
كما استخدم حرف الهاء في قصيدة مليحة ثلاث مرات أيضاً حين قال:
هلي هلال قصيدتي
إني هويتك يا مليحة
فحرف الهاء جاء في: هلي، وهلال، وهويتك. ويتكرر حرف السين بكثرة في قصيدة (نعيمة) حيث جاء عشر مرات في الضرب و العروضة، وجاء ست مرات في الحشو، فأما الذي في الحشو فجاء في كلمات: الإحساس، الناس، سلسبيل (مرّتان)، الأساس، الشمس، إلا أني لم أستحسن ختام القصيدة حين قال:
تشرق كالشمس على الرواسي
أشتاقها (من قدمي لراسي)
فالشمس التي تشرق على الجبال يبدأ إشراقها على قممها، لذلك فالشوق لديه يجب أن يبدأ بالرأس وليس بالقدم، ولكن يبدو أن القافية هي التي اضطرت الشاعر لذلك. وقد أحسن استخدام الحروف المتجاورة والمتشابهة، ويتجلى ذلك في قوله في قصيدة (لمياء) حيث استخدم اللام والميم المتجاورتين، واستخدم الميم والنون المتشابهتين حيث قال:
لُمِّي جمالك يا لمياء عن نظري
فإنني لست أقوى الحسن مشتعلاً
يتضح هنا استخدام اللام والميم المتجاورتين في قوله: لمي، جمالك، لمياء، والحروف المتشابهة في: الحسن مشتعلا، حيث استخدم الشاعر حرفي النون والميم، كما نلاحظ تكرار حرف النون في قوله: عن، نظري، فإنني، الحسن،.. فقد جاء حرف النون خمس مرات في هذا البيت.
وكل ذلك قد حقق للموسيقى تواجداً جليّا في قصائد الشاعر. ومن المهم أن نشير إلى أن النظرة إلى بنية القصيدة قد اختلفت الآن، فقديما كانت تلك النظرة تقسم الشعر إلى: قصائد، ومقطعات وأراجيز، و حددوا المقطعة بما قل عدد أبياتها عن سبعة، أو عشرة في قول آخر. أما الآن فقد ظهرت القصيدة القصيرة جدا، أو الومضة الشعرية، أو غير ذلك فيما أطلق على القصائد التلغرافية أو القصار جدا.
لهذا أطلقنا صفة قصيدة على كل ما ضمه ديوان محمد الجلواح سواء أكانت القصيدة طويلة مثل قصيدة (أنا.. صريع الغواني) التي وصل عدد أبياتها إلى (41) واحد وأربعين بيتا ً، أم كانت قصيدة لا تتعدى البيتين مثل قصيدة صباح الندى
أخيرا لقد استمتعت بقراءة هذا الديوان لهذا الشاعر المبدع، وهذه الصور الراقصة ،والتعبيرات المبتكرة والمشاعر الملتهبة والعواطف الجياشة والقوارير المتجاورة الجميلة ..