(من وحي عبير الذكريات في الوطن)
أكُلُّ ما مضى انقضى؟
أم ما مضى يعود؟
يا ليتَ بعض ما مضى يعود!
***
في كلِّ عامٍ حينَ يُقبلُ الشتاء
تَلامَعُ البُروقٌ في الفَضَا وتقصفُ الرعود
وتُفرِغُ السماءُ كلَّ ما احتوتْه في عُروقِها
يَرُبُّ كانونُ بعصفِه منابتَ الشجر
فتمتلي الوديانُ والغدرانُ والحُفر
ويَلقحُ الثَّرى*
تَهَامَسُ الجدَّاتُ والأمَّاتُ والبنات في حُبور
بِشارةً بموسمٍ تعْمُرُه الأفراحُ والأعراسُ والنذور
والكلُّ في انتظارِ ما يكِنُّهُ كانونُ في غيوبِه
من عاصفٍ أو قاصفٍ أو راعدٍ مزلزلٍ يُقطِّعُ السُّبل
وتمتلي مجالسُ السمر
من حولِ مجمرةٍ يفوحُ من يافوخِها دخان
يُطْبِقُ مثلُ خيمةٍ فيُشعلُ الدفءَ في المكان
وكلُّ مَنْ حولَها يلفُّه دِثار
يغوصُ في أعطافِه مُتمتمًا:
يا ليتَه لا يطلعُ النهار !
فبردُ كانونَ يُعطلُ الأحلامَ والكلامَ والأفكار
لكنه الثَّرى
يُعمقُ الإحساسَ بالبقاءِ والنماء
تمتصُّه الأشجارُ ترسِلُه أنشودةً تؤجلُ الوداع.
تعلنُه بشارةً على الحياةِ والدوامِ والبقاء.
وينفثُ في نيسانَ روحَه مبشرًا بمولدٍ جديد.
فيملأُ الرُّبا نُوَّارُه وتنجلي ذخائرُ الربيع.
عن كلِّ ما أبدعه مُقسمُ الأرزاقِ في الورى.
وحين تبتدي ذُكَاءُ تحترق.
وحرُّ أيّارَ يُلهبُ الأفُق.
يُنشدُ السُّمارُ في مواسم الحصاد:
«يا مِنْجَلي يا منجلي يا منجلي
باللهْ عليكْ تنجلي
يا منجلي يا بو الخراخش
منجلي في الزرع طافش.»
فليس صيفُها إلا القصيدَ والنشيدَ والغُدوَ والإياب
مرثيةُ الهوى منقوشةٌ على زخارفِ الثياب.
على حفيفِ السنديانِ يعزفُ النسيمُ لحنَه الأثير.
و(الميجنا) تدعو(زريفَ الطول) نحو ظلِّها.
لكي يراقصُ(الدلعونةَ)المِغناجَ في حبورِها.
صوتُ (العَتابا والمِعَنَّى) والضُباح والصهيل.
في ساحة السُمَّارِ في المضمار ساعةَ الأصيلْ.
ليلَ السهارى طالَ حتى عانق النجوم في سمائِها
وطافَ في فضاءِ الكونِ يرقب الأرواحَ في لقائِها
ويرصدُ الصباحَ علَّ من سوادِ الليل حين يطبقُ الظلام
يبزغُ فجرُ الحبِّ والأفراحِ والسلام.
***
وبعدَها تعودُ من جديدٍ قصةُ السفر.
في رحلةِ إلى الشمال والجنوب.
ثمَّ الجنوبِ والشَّمَالِ والشَّمَالِ والشَّمَالِ.
فقد وعَى ما قيلَ في قصائدِ الزمان:
شمَّلْ سنين،شمِّلْ سنين، شمِّلْ سنين.
جدِّدْ شبابَ القلبِ واعشقْ الشآم.
فقلبُه معلقٌ ببَرِّها وبحرِها وسحرِها.
متيمٌ بوِهادِها وجبالِها وسهلِها وغورِها.
أعياهُ سرٌ مودعٌ في تُرْبها وصخرِها
مجبولة بالعطر يكسو الطهرُ برَّها وبحرَها.
فلا يُطيقُ البعدَ عن مجالِها.
ساحرةٌ آسرةٌ تنفثُ روعةَ الوجيبِ في القلوب.
تُعطلُ العقولَ حين ذكرِها وتسحرُ الألباب.
وتأسِرُ العيونَ من عيونِها،تُحيِّرُ الأفهام.
فيعجزُ اللسانُ،أَعياهُ قصورُ البوْحِ بالكلام.
***
ويبدأ السؤال من جديد:
يا ذلك الذي مضى ولن يعود!
يا ليت بعضَ ما مضى يعود!
يا حُلمَ ليلةٍ صيفيةِ النَّدى ريانةِ السمَر
تضمختُ بعطرِها ولهانةً تُعانقُ الوتر
باتت تناجي الفجرَ ترقبُ النجومَ والقمر
أمضَّها السُّهادَ في انتظار بهجةِ النظر
تطوي الجناحَ في التياعٍ أجهدَ البصر
وتُنسجُ العبيرَ بُردةً لغائبٍ أطالَ في السفر
لما تدانى الفجرُ من شبَّاكِها توقفتْ عن حُلْمِها
وأغلقت مع الصباح كلَّ أسرارِ السهر.
***
يا ناثرَ البذارِ في تشرينَ ترقبُ الغمام
تصالبتْ شمسُ الخريفِ مُؤذنةً إلى غروب
وأقبلتْ سحائبُ الثَّرى مع عودةِ الطيورِ واليمام
رفوفُها تُلوِّنُ الفَضاءَ والأديمَ والسماء
هديلُها صفيرُها نِداؤها يسابقُ الزمان
يحثُّ كلَّ من لديه بذرةً يُودعَها محاضنَ البِذار
من قبلِ أن تلفَّها تخنقَّها مراسمُ الوداع
فالكلُّ يرقبُ النجومَ والظلالَ والقمر.
يُهيءُ الحِبالَ والأَحمالَ... والجمالٌ...
ساجعةٌ تئِنُّ من وُطْءٍ على شَواغرِ الرِحال.
تأبي فراقَ البيتِ والدِّيارِ والذِّمارِ والرِّمال.
لكنها تَقِرُّ حينَ ساعةَ الوداعِ تنحني رقابُها.
مُدركةً بأنَّ كلَّ ما أتى إلى وداع.
***
ويبدأ التمني والترجي والسؤال
يا ليتَ بعضَ ما مضى يعود!
تبسُمُ الأزهار للندى ونُضرةُ الورود!
وحَوَرُ العيون غارَ من تورُّدِ الخدود!
وضحكةٌ وسنانة تختزلُ الوجود!