(ح)
بدا واقعاً: أنّ عدم التوازن بين المثقّفين (فرادى) وبين التيار الديني (جماعة) أسهم بمعيّة عوامل أخرى إلى إخفاقات عديدة وتعثّرات في المشروع الإصلاحي؛ وهو ما يمكن رصده في مراحل تصادميّة عديدة مع التيارات الدينيّة المتشدّدة؛ فإلى أيّ مدى أثّر غياب التجمّع الثقافي-الأهلي على فقدان التوازن المادي-الوجودي لمكوّنات الدولة وعدم تحقّقه، وخاصة أنّه يواجه في المقابل إباحة التجمّع الديني-السياسي أو غضّ الطرف عنه؟!
لقد كان أمام السلطة (بعد أحداث أيلول) في مشروعها الإصلاحي أنّ تجد بديلاً عن الخيار الاضطراري الذي اتّخذته بعد (أحداث جهيمان-1979)، وهو الخيار الذي تمثّل ظاهريّاً بمعالجة النقاط التي استغلّها أو يحتمل أن يستغلها الخطاب الديني-المتطرّف تحت انعكاسات حربي الخليج وأفغانستان على الداخل السعودي، إضافة إلى انشغال مجموعة كبيرة من المثقّفين والأكاديمين بطوباويّة حداثويّة خالية من الخطاب السياسي ذي الأولويّة في نقد أو تقويم محتملات وخيارات السلطة؛ وكانت السيناريوهات الجديدة: إمّا اتجاه إباحة التجمّع الثقافي-الأهلي: هو شرعنة التيّارات المدنيّة الأهليّة كجزء من مؤسّسات مكوّنات الدولة المدنية، لإحداث تكافؤٍ يحدّ من التطرّف في الجهتين، (تيّار تجمّعي أمام تيّار آخر، وليس أفراداً أمام تيّار منظّم). أو اتّجاه البديل (تأميم الثقافة/مجازاً): وهو قيام السلطة بهذا الدور بحيث تهتمّ بالثقافة والمثقّفين. أو المضي قدماً في الاتجاهين.
وما حدثَ معروف للجميع؛ تمّ توزير الشأن الثقافي ضمّاً إلى وزارة الإعلام؛ ولكنّ انشغال الساحات السياسيّة والدينيّة والثقافيّة بأحداث أيلول وما أعقبها والعجلة في الإصلاح تداركاً للصدمة، حتّى أصبحت كلمة (إصلاح) الأكثر شيوعاً في الصحف والقنوات وغاب مشروعها، كما غُيّبَ مساءلة السلطة: ماذا تريد من الثقافة في مشروع الإصلاح؟ ما هي قضايا الثقافة التي تريد استغلالها عبر هذا التوزير؟ هل تريد السلطة من الثقافة أن تمارس خيارها القديم: (معالجة النقاط التي يستغلّها الخطاب الديني-المتطرّف) أمْ تريد إحداث توازن مادي وجودي يحدّ عبر انتشاره من التطرّف بين جميع الأطراف؟!
وما حدثَ، أنّ الثقافة نفسها غدت سلطة مذ توزيرها، (نظريّاً، على أقل تقدير)، وهو ما يعني أنّها غدت طرفاً في المسألة عينها، فزادت المسألة تعقيداً: (أنت الخصم والحكم)، كما حال (الفكر الديني-المذهبي) مُذ وزّر وسيّس صار سلطة وطرفاً في الأزمة ممّا يُعطّل في حلّ المسائل الناجمة عن هذا الخلط؛ وليس إشكال الثقافة في إلحاقها بوزارة الإعلام كما يتوهّم دعاة الفصل بين الثقافة والإعلام على مستوى الوزارات، إنّما هو في توزيرها وشرعنتها على نموذج يتعارض مع طبيعة الثقافة التنويريّة، فطبيعة السلطة أنّها أحاديّة وذات أهداف في تقليص الممكن، بينما من طبيعة الثقافة أنّها تعدّدية وأهدافها في توسعة ممكن السلطة.
هل يكفي الظنّ أنّ ضعف المثقّفين أو ضعف طبيعة التنظير في واقع لا يعتمد على الأبحاث والمعلومات والعصرنة والتجربة، أو حالة عدم قانونيّة التجمّع الثقافي الأهلي جعل السلطة تقوم بدورهم لإحداث التوازن؟ لأجل إيجاد معادلة تقابلية بين جماعة وجماعة، وليس كما حالها سابقاً (أفراد) مقابل (تيّار).
هل هناك أسباب أخرى اضطرّت المشرّع إلى (توزير) الثقافة غير التي نسوقها ونحاول تفكيكها؟ وهل كانت الخطوة تمهيداً لمعالجة المسألة الثقافيّة، أم لمواجهة واقع تضخّم التطرّف الديني-السياسي؟ وإن كان الظاهر أنّ السلطة مسؤولةٌ -واقعيّاً وأخلاقيّاً- عن تضخّم الواقع الديني وتحوّله إلى مسألة، وما نتج عنه من تفرّعات (في الإسلام الثوري المسلّح) إلاّ أنّ المثقّف أيضاً يتحمّل نصيباً من المسؤولية عمّا آل إليه التطرّف الواقعي؛ أيّاً كان انتماء المتطرّف، فنحن لا نعدم اليوم أن نرى أطرافاً مدنيّة تتورّط في الخطاب الإقصائي عينه الذي ينطلق منه التطرّف الديني.
(ط)
ليس من أهداف هذا الموضوع أن ينفي وجود ثقافة أهليّة تعالج المسألة الثقافيّة و/أو الثقافات بمنأى عن السلطة، فالمقصد أنّ هناك وجوداً لهذه الثقافة-الثقافيّة والسياسيّة لكنّها في حدود الافراديّة التامّة، أو تكاد تكون أقرب للعزلة، لأسباب عديدة: على رأسها غياب الحريّة، الجدوى، وعي الناس في تقبّل الاختلاف، وهي ثقافة لم تصل إلى مفهوم تجمّعي: فريق أو تيّار، وربما (وصلوا-تجاوزاً) في محطات نادرة من تاريخ الثقافة الحديثة السعودية، (أ) فلليساريّة الثقافيّة السعوديّة تجربة تجمّعية بقيت في العتمة ولم تخرج للنور والتداول ويصعب قراءتها (هنا-والآن) لغياب التفاصيل الواقعيّة والتنظيريّة لليسار نظراً للظرفيّات التي مرّ بها، أو لمن لا يملك تفاصيلها من الداخل، (ب) وللحداثيين-المراهقين تجربة طوباوية.
ولذلك لا نحضر هنا المسألة الثقافيّة ونختزلها في إشكاليّة من إشكاليّاتها: (بين القديم والجديد، المدنيّة الدينيّة والمدنيّة العلميّة العلمانيّة، التعدّديّة والأحاديّة، حقوق حريّة التأمّل وبين رقابة ووصاية، حقوق البحث والتجربة والعلم في النقل وبين مسلّمات منقولة لا يصحّى نقدها أو الشكّ فيها، الموقف من السياسة)، إنّما نحضر هنا الغاية والهدف من المسألة: (ماذا يريد المثقّف السعودي من السلطة؟ ماذا يريد من التراث؟ ماذا يريد من الحاضر والحضارة الغربيّة؟ أين موقفه ورؤيته من مفهوم الدولة الحديثة والدستور ومصدر السلطات) هي هذه الأهداف المتعلّقة بعلاقات المواطنين دون إقصاء مردّه العرق، الطبقة، المذهب، أو مردّه الاختلاف الفكري؛ كم مذهب في السعودية: سنة، شيعة إثنى عشريّة، إسماعيليّة، زيديّة..!! كم عرق: (عربي-مجازاً)، أفريقي، أعجمي!! المسائل المتعلّقة بالأنا: بوصف الأنا لا تكون إلاّ مع الآخر في تركيبة تعدّدية هي طبيعة مكوّنات المملكة، والمسائل المتعلّقة بالآخر الداخلي: (البدون، الطبقات المهمّشة، ولأقليّات) ولم يكن للثقافة السعودية الظاهرة أي أثر على إظهاره، رغم تجارب إبداعيّة لمست هذا المأزق ولم يتلقّفه حراك ثقافي، كما هو حال الحراك الذي يظنّ معركته الوحيدة متمثّلة بمواجهة تيّار بعينه، متجاوزاً حقيقة من وراء التيّار من سلطة ومجتمع؛ وأيّاً تكن تلك المسائل الخلافيّة والاختلافيّة فإنّ المسألة الثقافيّة إنْ تمّ تحويلها لقضايا الخارج فهو انحراف أساس عن أهدافها الداخليّة ذات الأولويّة، كما أنّ اختزالها في قضايا اجتماعيّة استهلاكيّة تحريف عن قضيّتها الأساس-الإنسان السعودي وعلاقته بالحياة والحضارة، وبالتالي فإنّ تعريفها يختلف باختلاف الخزن المعرفي والمرجعي لفاعل التعريف ونواياه؛ لطالما تراها السلطة: أنّها انفتاح الداخل تحت رعايتها، وأنّها قادرة على القضاء على التطرّف والعنف، كما يعنيها التصدير أنّها ترعى التنوّع والتعدّد دون أن تهدّد هذه الدعاية والتصدير التقاليد والعادات وحرّاسها داخليّاً، وهي رؤية مضبوطة على اشتراطات ظرفيّة متغيّرة، لكنّك لا تضمن سلامة تمريرها لمشاريع إصلاحية مستديمة، فكأنها أقرب إلى الحلول الآنية.
أمّا المسألة الثقافيّة لدى المثقّفين تمضي باتّجاه رغبتهم بمزيد من المشاركة في صناعة القرار، ونقد وتقويم ضغوطات التيّار الديني كطرف وازن في صناعة القرارات الوطنيّة، ومطالب حقوقية وقضائيّة وتداوليّة؛
أمّا رجال الدين فإنّهم ينظرون إلى المسألة الثقافيّة على أنّها إمّا أن تكون امتداداً له، فكلّ فكر وسلوكٍ وأثرٍ وخصوصيّة إنّما يجب أن تقاس بمعايير المرجعيّة الدينيّة وتصدير التراث وإحلاله في المعاصرة على أنّه ثقافة موروثة مقدّسة بوصفها قادمة من القديم الطاهر، أو أنّها حينذاك خارجيّة تُهدّد التراث والحاضر.
هل هذا حقّاً حرص رجل الدين؟ وهل يمكن لهذا الحرص أن يتغيّر إذا تغيّرت ظروف الحلف المقدّس بين الدولة ورجال الدين؟ فنحن لا نعدم أن نرى تحرّك جموع الدعاة المفتونين بأنفسهم إلى المصادقة على أي قرار تأخذه السلطة، بل والتسابق على شرعنته دينيّا، والحقّ أن شرعيّة أيّ قرار تأخذه السلطة مستمدّ من قوّة السلطة وشرعيتها، ومن رضا الناس على القرار، وليس بمباركة رجل الدين، لأنّ أصلٌ في الشرعيّة الواقعية القويّة مرتبط برضا الناس، وليس برضا رجال الدين، وهي شرعيّة لا تعارض المتن المقدّس لأنّ الأصل في التشريع قائم على موازين متغيّرة وفقاً للزمان والمكان، وعلى مذهب إنساني هو أكثريّة العرف المتعارف بين الناس والمتلاءم معهم، وبين حظر ومنع ما تنكره أكثريّة الناس، وهي الطبيعة السياسيّة التي تنتصر وتنتشر يوماً بعد يوم كأساس وعلّة عُليّا للتشريع الإنساني، والذي هو جوهر الدولة المعاصرة: (الناس مصدر السلطات وغايتها).