صناعة الموت عنوان لبرنامج تقدمه القناة العربية، أتذكر أني أشاهده وأتذكره من البرامج الناجحة. مرت سنوات على البرنامج وبقي عنوانه ماثلا في ذاكرتي.
يصدف أني قررت الذهاب إلى وطني الأول «العراق» من وطني الثاني «هولندا» وذلك لحاجتي الماسة لاستعادة وثائقي الشخصية التي أخذها الإسرائيليون مني عندما غزت إسرائيل العاصمة العربية بيروت عام 1982 فدخلوا «القبو» الذي وضعت فيه حقيبتي بعد أن قصف بيتي بصاروخ، فأخذ الجنود الإسرائيليون محتويات القبو وبداخله حقيبتي وفيها نسخ من أفلامي ووثائقي الشخصية. قال لي أصحابي «لا تحزن.. كل شيء يتعوض سوى الحياة. الحمد لله على سلامتك».. نفس الجملة قيلت لي وأنا متوجه إلى وطني « ما شأنك بالوثائق. الوثيقة ليست دليل على مواطنتك أو على وطنيتك. لا تذهب فالحياة في العراق محفوفة بالمخاطر» وذكروني بقائمة تجاوزت الرقم 280 وهو عدد المبدعين الذين تم اغتيالهم.
هناك في العراق كان يجري توليف - مونتاج برنامج «صناعة الموت» للقناة العربية الذي يكشف ويحلل ما ينجز صناعيا للموت بدلا من صناعة الإسمنت والحديد.
كنت أشاهد البرنامج على الشاشة وأنا مسترخ على الكنبة ثم أنساه وقد يدهمني في منامي ذلك الحدث الذي شاهدته.
عندما وصلت العراق واستغرقت رحلتي أحد عشر شهراً، لم تكن صناعة الموت على الشاشة، بل كنت في مواجهة هذه الصناعة أرض الواقع. كنت أواجه صناعة الموت بشكل يومي. وعرفت ليس عن طريق البرنامج عدد الراحلين قسرا عن هذه الحياة. صرت أتذكر المقاهي التي تضمنا وحين نتعارك اختلافاً على ضفة شاطئ أبي نواس عن المدارس الثقافية والاتجاهات الفكرية الإيديولوجية. كثيرون من الأصحاب رحلوا أشبه بمشهد سينمائي يمثل ضجيجا ثم يسكت الصوت ويبقى صداه ويختفي فتبقى الصورة موحشة بدون صوت.
قررت أن أعمل فيلما عن العراق في العراق، أصحابي نصحوني أن أكف عن هذا الذي يسمونه الإبداع الذي قد يودي بحياتي وأتحول إلى أحد حلقات برنامج «صناعة الموت»!
الأحداث التي واجهتني لو كتبتها ونشرتها فستندرج ضمن الخيال العلمي. لذلك تصعب علي صياغتها كي أجعلها واقعية كما هي، لأنها في واقعيتها غير قابلة للتصديق.
فجأة وأنا أعمل الفيلم شعرت بأنني دخلت في ورطة، ليست ورطة إنتاجية فحسب بل هي ورطة أمنية. فأنت لا تعرف من هو عدوك. صار هاجس الخوف يصعب التعبير عنه وهو مثل الموت المجاني عندما يحصل بدون صوت.. بمسدس كاتم للصوت يعيدك إلى عهد السينما الصامتة. حيث كان يتم إطلاق النار في الأفلام دون أن تسمع الصوت!
موضوع فيلمي يحمل الكثير من الحقائق التاريخية عن وطن كان حلما يعيشه الناس دون أن يستيقظوا ثم يموتون ويرحلون عن هذه الدنيا ويتركون الفراغ في المقاهي وفي البيوت وفي مؤسسات الثقافة ولا تبقى سوى صورهم شاخصة أمام الجيل الآتي. اليوم كثر الراحلون قسراً، رحيل عن الحياة وليس رحيلا عن الوطن.
العدد ليس قليلا، فرحيل المبدع والعالم هو حكاية قاسية ودامية.. وهو اليوم هدف لمصانع الموت، تلك المصانع السرية التي كانت يوما تعيش في بيوت الأشباح فصارت تعيش في الهواء الطلق. وتمشي في الهواء الطلق. يأتي القاتل وعادة ما يكونوا قاتلين اثنين، يؤدون الفعل وهم لا يعرفون المستهدف ولا يهمهم أن يعرفوه. بل يتقاضون أجورهم مقابل ذلك الفعل الجريمي، يؤدون الفعل ويجلسون في أقرب مقهى لاحتساء الشاي.
الشخص الذي كان يقوم بتوليف مادة برنامج صناعة الموت عمل معي كمخرج مساعد في فيلمي «بغداد خارج بغداد» واسمه «حيدر محمد محمود» بعد أن أنجزنا التصوير جاءني يوما وفي يده مظروف كان وضع أمام باب منزله وعليه اسمه مكتوب بطريقة بدائية لشخص لم ينجز مرحلة الدراسة الابتدائية على ما يبدو، وقد وضع في داخل المظروف حبة رصاص صغيرة!
بين الواقع والوهم، بين البرنامج التلفزيوني والبرنامج الحياتي. قال لي من يحميني ويحمي أسرتي وسط هذا الغابة؟!