سنتحدث في هذه الحلقة عن أبرز موضوعات الفلسفة، بعد أن تناولنا في الأجزاء السابقة عددًا من النقاط الرئيسية التأسيسية الهامة، التي يُستحسن بل يجب الرجوع إليها قبل التعمق في قراءة هذا الجزء.
بَادِئَ ذِي بَدْءٍ لابد أن يعلم المبتدئون أن هناك إشكاليات جليّة وتداخلات معقدة في العنونة، عند الحديث عن موضوعات الفلسفة ومجالاتها ومسائلها وأقسامها وأنواعها وفروعها ومذاهبها وتياراتها وأشكالها ومباحثها وألوانها المختلفة، بل عند التطرق لأي موضوع أو لأية نقطة صغيرة أو كبيرة لها علاقة بالفلسفة، وهذا ليس مستغربًا، فالاختلاف والتداخلات في العنونة من باب أولى، عطفًا على الإشكاليات والتناقضات والاختلافات البينة في تعريف (مصطلح الفلسفة) من أساسه، كما أشرتُ سابقًا، وقلت: «لن نبالغ لو قلنا إن عدد تعريفات الفلسفة مُساوٍ لعدد الفلاسفة».
المهم: ليس بوسعي أن أخوض في التفريق الدقيق بين العناوين والتسميات المرتبطة بموضوع هذه المقالة الآن؛ لأن هذا سيشوش على المبتدئين المستهدفين من هذه السلسلة.
يكفي أن يعرف المبتدئ أن للفلسفة مسائل أو موضوعات أو ميادين أو مجالات -أو سمّوها ما شئتم- رئيسية، هي:
1- الأشياء الظاهرة لنا القريبة منا، وهي كلُّ ما نحس به ونشعر بوجوده عن طريق حواسنا من الأشياء المتبدّية لنا بوضوح، وهذا ما يسمى «الفلسفة الطبيعية». ولا شك أن تفحص الطبيعة وظواهرها وتأمل عجائبها وأسرارها هو أول ما يلتفت وينجذب إليه عقل الإنسان منذ أن يشعر بوجوده المتميز عن كل ما يحيط به. فالأطفال يتذكرون جيدًا في بداياتهم الأولى أسماء أبرز المرئيات أو المسموعات أو المذوقات أو المشمومات أو الملموسات، التي تتميز بألوانها الفاقعة، أو أصواتها العالية، أو مذاقاتها أو روائحها المميزة أو الغريبة، أو خشونتها أو ليونتها أو نعومتها، أو نحو ذلك.
2- الأسباب الخفية المتوارية المستترة للأشياء المحسوسة الظاهرة لنا؛ أو قل: (العلل الأولى البعيدة) للأشياء الماديّة القريبة منّا، أو قلْ: أرواح الظواهر. أو المدرَكات العقلية المجرّدة، وهذا المجال مكانه العقل لا الحواس. وهو ما يعرف بما بعد المادة أو «ما وراء الطبيعة». والإنسان بطبيعته لا يتوقف عند الظواهر ولا يكتفي بإدراك ما يتبدّى له فقط، بل يصرُّ على تفحص ما يتملّص من أدواته الحسيّة. وفي داخله رغبة غريبة جامحة، تجعله لحُوحًا في البحث العقلي عن كلِّ ما لا يمكن إدراكه بالحواس. يقول أحد الفلاسفة في هذا: «عقل الإنسان مركبٌ تركيبًا عجيبًا؛ إنه مع شغفه بالبحث في مسائل لا تدركها حواسّه، لم يستطع كشف معمياتها؛ ولا التوقف عن المحاولة».
3- مواضيع عامة أخرى كثيرة، تُعنى بشؤون متعددة متشعبة؛ أبرزها شأن الإنسان وكل ما يتعلق به، ودراسته بتعمق بحثي شامل في جسمه (فسيولوجيا) وعقله (سيكولوجيا)، وما يحيط به ويؤرقه ويهمّه، من المشاكل والتساؤلات والموضوعات الكثيرة المتمددة المتشعبة اللامتناهية، بغية المساهمة في إيصال هذا الكائن إلى بر السعادة والاستقرار، ولذلك فعلاقات الفلاسفة علاقات وطيدة جدًا، بالأنثروبولوجيا والسياسة، والمنطق، والاقتصاد، وغيرها.. وبعلمي النفس والاجتماع -بالتأكيد- قبل ذلك كله.
إذن، من أهم الموضوعات التي تهتم بها الفلسفة بشكل عام ما يلي:
أ- المنطق:
يصيب الرعب الكثيرين عند الحديث عن المنطق أو عند ذكر اسم كتاب في المنطق، ويندفعون بشراسة -موغلة في الغباوة- في الهجوم على هذا العلم والمهتمين به، مستشهدين بأقوال كقول ابن الصلاح -أصلح الله مرددي كلامه- في فتوى عجيبة له: «من تمنطق فقد تزندق» ولو سألت أحدهم: ما هو المنطق؟ لفغر فاه ثم قال لا أدري، أو هرف بما لا يعرف.. يتوجسون من المنطق والمناطقة، رغم أنهم يسيرون على مقتضيات المنطق وقواعده وقوانينه ومناهجه، في كثير من نقاشاتهم وحواراتهم، سواء شعروا بذلك أم لم يشعروا.
المنطق ليس بعبعًا مخيفًا كما يتوهم الجهلة.. المنطق -ببساطة شديدة- هو علم جميل مستقل ملتصق بالفلسفة عند البعض، وجزء منها عند البعض الآخر، فيما يعده آخرون فرعًا من علم النفس انفصل عنه وفق شرح طويل ليس هذا وقته.. مع ضرورة الانتباه هنا إلى أنهم اختلفوا في طبيعة المنطق -كما اختلفوا في الفلسفة- هل هو علم أم فن أم نشاط، أم خليط بين العلم والفن.
يعلّمنا المنطق كيف يكون التفكيرُ صحيحًا، وكيف تحكم عقولنا على الأمور بطريقة سليمة. أو قلْ: كيف نُعمل عقولنا للوصول إلى النتائج البعيدة عن الخطأ، بتجنب عوامل الوقوع فيه.. المنطق يصنع في عقل المفكر موازين للتفكير المنير الثاقب.. يعلمنا المنطق الشروط التي تجعل الحكم صوابًا، والأسس التي يتم على ضوئها تقييم نتائج التفكير.. يعلمنا كيفية اختبار الأحكام والنتائج بعد التوصّل إليها، للتأكد من سلامتها؛ وفق قواعد وقوانين وأنظمة ومناهج، ربما نسهب في شرحها في مقالات قادمة.
ب- مبحث النفس :
قد يكون الفكر شيئا روحانيًا، وقد يكون مجرد قوة عضوية أو وظيفة بدنية يؤديها المخ المنظم عندنا أكثر من تنظيمه عند بقية الحيوانات، وفي الحالتين أعتقد أن البحث فلسفيًا فيها - أي في النفس، لا يخرج عن صورتين أو بطريقتين: الأولى: استبطانها، ومعنى ذلك أن يتعمق الإنسان في أغوار عقله سابرًا لها متأملا أحواله وما يدور فيه من أفكار.. إنه اقتحام النفس للوقوف على ما فيها من مشاعر وأحاسيس محزنة أو مفرحة أو غير ذلك من المشاعر المختلفة... بهدف الوصول إلى الراحة والاستقرار والسعادة والسلام الداخلي.
والثانية: ملاحظة الآخرين، أي ملاحظة الظواهر النفسية عند غيرنا من البشر، بملاحظة انفعالاتهم وملامحهم وإشاراتهم وأقوالهم وأفعالهم ونظراتهم... فيستطيع الواحد منّا تكوين صورة عن غيره من خلال ذلك؛ فيتجلّى الارتباط بين أفكار الشخص من خلال كلامه مثلاً، وتتجلى أحواله من خلال ملامحه وأفعاله وغيرها من سلوكياته وانفعالاته وتغيراتها وتقلباتها.
لقد تناول الفلاسفة النفس البشرية بإسهاب لا حدود له: سألوا واختلفوا في الإجابة عن أسئلة شائكة معقدة من قبيل: الإنسان نفس وبدن، يجوع فيأكل ويشرب، وينام فيحلم، ويفرح ويضحك، ويبكي ويتألم، ويخرج فضلاته- أكرمكم الله- ويتحرّك؛ فما هي العلاقة بين النفس والبدن؟ وهل البدن غير النفس، أم أنهما كلٌّ واحد يظهر من زاويتين؟! ينقسمون في مسألة الوجود الحقيقي للنفس، وصورة هذا الوجود وماهيّته، وتتفرع عن انقسامهم هذا وتتقاطع وتتداخل معه انقسامات وجدليات أخرى طويلة.
ج- فلسفة الاجتماع:
لن نطيل هنا، ويكفي أن نقول: الفرق بين علم الاجتماع وفلسفة الاجتماع باختصار هو أن علم الاجتماع مشغول بوصف الظواهر الاجتماعية، ولا يتعمق كثيرًا في علل الظواهر وخاصة البعيدة منها، ولا في الاحتمالات المتنائية والنتائج المتوقعة المتوارية، التي ستنتهي إليها تلك الظواهر، وهذا هو دور فلسفة الاجتماع.. إنها تهتم أكثر من علم الاجتماع في التقصي الدقيق لأسباب الظواهر والعلاقات والتفاعلات والنشاطات الاجتماعية المختلفة، والتفكّر الزائد في النتائج والمآلات المتوقعة -إن صح التعبير- التي ستنتهي إليها تلك الظواهر، خاصة على الأمد البعيد.
د- فلسفة القانون:
تبدأ علاقة الإنسان بالقانون فور ولادته، فلابد على والده من اختيار اسم له وفق قواعد معينة غالبًا، ثم تسجيله في دوائر الدولة المتعلقة بالنفوس أو الأحوال المدنية أو ما شابه ذلك.. وهكذا يستمر ارتباط الإنسان بالقانون عند تسجيله في المدرسة وفق قوانين محددة، ثم يزيد الارتباط بالقانون مع تقدم العمر، فلا يمكن لإنسانٍ أن يتزوج أو أن يُتم أيَّ عملية بيع أو شراء أو سفر أو غير ذلك من الأمور الحياتية الكثيرة إلا وفق إجراءات قانونية محددة.. يخضع الإنسان لتشريعات قانونية مختلفة طيلة حياته، بل وبعد مماته أيضًا، فلا يمكن أن يُدفن –غالبًا- إلا بأوراق قانونية، ولا يمكن لورثته مثلاً أن يقسموا التركة إلا بقوانين.. ولا يمكن لدائنيه تحصيل مستحقاتهم إلا بأنظمة ... وهكذا.
قلنا سابقًا: الفلسفة حب الحكمة، وشرحنا الحكمة وخلاصة ذلك أنها الحكمة في السلوك، وعرّفنا السلوك. والقانون هو مجموع ما يُسنّ وما يشرّع من قواعد وإجراءات تهدف إلى ضبط السلوك العام للأفراد والجماعات. ومن هنا توطدت العلاقة بين القانون والفلسفة.. تتساءل فلسفة القانون: ما هو القانون؟ كيف خلقت هذه القوانين ومتى بدأت؟ ما آليات تطورها، وما هو الأنسب منها المحقق للغايات المنشودة، وما هي هذه الغايات قبل ذلك؟ وما هو الفرق بين الحق والقانون؟ وهل القانون في أصله طبيعي أم وضعي؟ وما هي علاقة القانون بغيره من المجالات والعلوم؟ أسئلة لا تنتهي من هذا القبيل تعمل الفلسفة على البحث فيها والإجابة عنها بصورة تكاملية تفصيلية شاملة.
هـ- الفلسفة السياسية: علم السياسة وصفي محصور في ما هو قائم غالبًا، أما «فلسفة السياسة» فليست وصفًا مجردًا للنظم السياسية، بل بحثًا عميقًا دقيقًا في ما يجب أن يكون عليه النظام العادل.
فالحلم بالدولة المثالية نموذجًا للنظام العادل المتكامل، هو ما شغل كثيرًا من الفلاسفة على مر العصور، ولا يمكن أن نتجاهل هنا الاستشهاد بأفلاطون وكتابه الجمهورية (الدولة) فهو من أشهر الأعمال التي أعطت لهذا الحلم الإنساني الجماعي شكله العقلاني. كما يُعتبر أول كتاب وصلنا عن تخيل الدولة المأمولة. أرد أفلاطون ربط السياسة بالأخلاق، وربط النظام السياسي بقوانين الواقع، لأحداث نقلة كبرى.
انطلق أفلاطون من قضية العدالة، ووصل إلى أن النظام العادل هو النظام الذي يُبنى على أسس ثابتة لا تتغير مهما مرت العصور، وصورته أن يحكم الدولة أفضل العناصر من حيث الحكمة والسلطة معًا. كان يحلم بالملوك الفلاسفة لدولة النظام العادل.
فهؤلاء الملوك الحكماء ليسوا قادة سياسيين فحسب، وإنما هم قادة روحيون في الوقت نفسه.
الفلسفة ا لسياسية باختصار: تهتم بالعدالة والحريات بأنواعها، وتضع وتبحث في أسئلة من قبيل: ما هي السلطة، ومن يمارسها؟ ما هي الشرعية، ومن أين يستمد الممارس شرعيته، من القوة أم من الوراثة أم بالانتخاب؟ ووفق ماذا يمارس شرعيته، وفق المزاج أم وفق القانون؟ وإذا أجبنا وفق القانون؛ فيتجلى دور الفلسفة في النظر من الأعلى للقانون والسياسية وعلاقة بعضهما ببعض. من الذي يضع القانون؟ هل لصلاحية السلطان حدود، وما هي، ومن الذي يحددها؟ ما هي حقوق الحاكم وما هي واجباته؟ هل ثمة ضرورة للانقسام إلى حاكم ومحكومين، وما هو الصالح العام في هذا؟ هل يلغي النظام الحرية وكيف، وهل يمكن تنظيم الحريات دون تعطيلها؟ وأسئلة طويلة أخرى كثيرة تتشعب ولا تنتهي.
نتوقف هنا الآن، ونواصل الحديث عن البقية الباقية من أبرز موضوعات الفلسفة في المقالة القادمة الخامسة، قبل أن نختم هذه السلسلة بتسليط الضوء على خصائص الفلسفة -مع إشارات نهائية سريعة- في المقالة السادسة الأخيرة بعون الله.. ودمتم سالمين.