إن نسبة القبحي والجمالي للنقد الثقافي في هذا المقال هي نسبة للأنساق الثقافية المنقودة والمستبطنة في مضمرات النص، فطبيعة النقد تقوم على الجدلية الفكرية والبحث اللا منتهي في النظرية النقدية المتوافقة تمامًا مع ما يستجد من أفكار وأطروحات تغير مسار النقد وتزيحه باتجاهها ليكون في تناسق تام معها حتى تزيحها فكرة وأطروحة أخرى فينزاح معها النقد أيضًا. ومن هذه الإزاحات تنبع أطروحة (الجمالي والقبحي) في النقد الثقافي كمنطلق للتطبيق النقدي على النص الأدبي. وتنظير الغذامي للنقد الثقافي هو في حيّز القبحي ولا يتعداه إلى الجمالي ألبتة، بل إنه يرى أن النقاد المشتغلون على الجمالي في النقد الثقافي هم يشتغلون على النقد الأدبي لا الثقافي، بل إنه يتهمهم بعدم إتقان النقد الثقافي في الوقت الذي لم يتقنوا فيه النقد الأدبي.
وفكرة القبحي في النقد الثقافي التي نظّر لها الغذامي في كتابه (النقد الثقافي) هي مُقَابَلَة للبحث عن الجمالي في النقد الأدبي، ومن هذا المنظور لا يمكن أن يجتمع النقد الثقافي مع الجمالي - برأيه -.
وأعتقد أنه لن يواجهنا أي إشكال في حين لو كان النقد الثقافي حليفًا للنقد الأدبي على مرّ المرحلة النقدية الجمالية في تأريخ النقد العربي، لذا فإن تأخر الاهتمام بالنقد الثقافي حتى هذه الفترة الزمنية جاء باتجاه عكسي قاسٍ حكم من خلالها بموت النقد الأدبي لتحلّ محلّه الذي كان مسروقًا في المرحلة السالفة.
فالمخاتلة التي يمارسها النسق الثقافي القبحي مع الجمالي الأدبي إنما هي علاقة عُدوانية يستعملها النسق ليمرر ثقافته البئيسة بخفية في مضامين الجمالي، ومن هذا فلا يمكن أن يكون النسق جماليًا حتى نلغي هذه العلاقة العُدوانية بينهما ونحولها إلى علاقة تصالحية يمتزج فيها الجمالي الأدبي بالجمالي الثقافي، وعند هذه الجمالية يتحول النسق إلى جمال فتستمر رحلة البحث عن الجمال في النص الأدبي وهنا ستفشل نظرية النقد الثقافي المبنية على الكشف عن القبحيات.
فهل باستطاعة النقاد إنشاء نظرية موازية أو مميتة للنقد الثقافي القبحي يبنون من خلالها تطبيقاتهم النقدية دون مساس بالتنظير القبحي وتشويهه؟!
لعل الجواب هنا يكون سببًا للتصالح بين القبحي والجمالي في النقد الثقافي.
استطاع الغذامي بكل إتقان ومهارة الناقد المنظّر الذي يصدق عليه لقب أستاذ النظرية أن يقعّد ويسكّ مصطلحاته التنظيرية للنقد الثقافي القبحي بيد أنه لم يستطع أن يتوافق مع نظريته حال التطبيق حينما شرع في تحليل الهامش والمتن عند الجاحظ من خلال كتاب (العصا) الذي تنقّل فيه الجاحظ بين المتن/العصا، والهامش/نقد النسق الفحولي الذي يختبئ خلف العصا عندما تكسرت وتفرقت ففرق فيها الجاحظ الفحولة وشتتها وذا -في نظر الغذامي- شاهد على تجاوب الجاحظ مع النقد الثقافي، لكنه -في نظري- تحليل ثقافي جمالي، أظهر منه الغذامي جماليات الثقافي المخبوءة في نص الجاحظ وأعمل فيها تحليله العميق فيما يقارب خمس عشرة صفحة من الكتاب، وبهذا التحليل الجمالي يخالف تنظيره في البحث عن القبحي في النص ويوافق تمامًا ما طبقه يوسف عليمات على صورة المرأة في شعر الصعاليك إذ أظهر النقد الثقافي الجمالي صورة القبيلة السيئة المختبئة خلف جماليات صورة المرأة في شعرهم حينما صوروا المرأة بالضد معهم، فتمنعهم عن الشجاعة والكرم وما هذا في نظر التحليل الثقافي الجمالي عند عليمات إلا نسقًا ثقافيًا جماليًا لوضع القبيلة التسلطي معهم حينما صادر منهم كل صفات الشجاعة والقِرى.
ويوسف عليمات يخطّ منحىً موازيًا للغذامي في التنظير أو المفهوم للنقد الثقافي من حيث توجيهه نحو الجمالي بديلاً عن القبحي المعلن عند الغذامي، ويظهر من رأيه حينما وفّق بين «إمكانية إضمار النص للقبحيات والجماليات» ويشير إلى الغذامي ومن يرى رأيه في تغليب القبحي بقوله: «لكن استبعاد بعض الدارسين للقيمة الجمالية في النص واتخاذها مجرد حيلة شكلية لإضمار القبيح والسالب في النص لا يمكن أن تستقيم. فالنص يتضمن أنساقًا ناجزة للمعاني ومولدة للموضوعات، لذا فإن تضاد هذه الأنساق جماليًا وقبحيًا هو الذي يحفز المتلقي على اكتشاف الأبعاد الوظيفية لهذه الأنساق».
وبذا يتفرع النقد الثقافي إلى تحليل للقبحيات وإلى تحليل للجماليات، وقد طبق النقاد تحليلاتهم على هذين المسارين حتى جاء صلاح فضل ليجمع بين المصطلحين (جماليات القبح في رواية ما بعد الحرب) حينما طبق النقد الثقافي على رواية (يا سلام) لنجوى بركات، وهو بهذا العنوان يرمز لنا بالجمع بين المتناقضين ليسك منهما اصطلاحًا -في نظري- غير منطقي بل تعسفي، فكيف يكون للقبح جمال؟!