يحدث في منتصف الحياة أن يأتي الموت
ليأخذ مقاساتنا. هذه الزيارة تُنسى
وتستمر الحياة.
لكن الثوب يخاط بلا علمٍ منّا.
توماس ترانسترومر
(1)
مات ستالين. نعم. مات في الواقع وفي الكتب وفي الفيلم. الديكتاتور يموت أيضاً. يا للهول.
هل يموت ديكتاتور؟
كيف؟
نعم يموت. هكذا بكل بساطة، يسرق عمره الوقت، تأكله الجراثيم والفيروسات. ثم يتحول إلى مستقبل دائم للأطباء. ثم وعلى سرير وثير محاطاً بخدمه وعائلته وحراسه وطبيبه الخاص يستقبل ملاك الموت الذي ينتزع روحه من مكانها ويغمض عينيه ويستقر في الموت.
وماذا نفعل نحن؟
نبحث عن ديكتاتور آخر ليحكمنا.
هذا الكلام ليس لي. بل لسيدة روسية كانت تعمل في الكرملين، هربت إلى باريس في الخمسينات، وهذا مقتطف من حديث أجرته معها صحافية كانت تعمل في الموند العام 1957 .
أستعيد هذه المقابلة التي قرأتها في أرشيف المكتبة الوطنية الفرنسية. قبل سنوات، يوم قرأتها، لم تكن سوريا تعيش ما تعيشه اليوم. كانت المأساة عراقية ومؤرقة. العراقيون كانوا منذ نهاية السبعينات ضيوف العالم. ليس العراقيين الذين كانوا في العراق بل من وقف منهم ضد الديكتاتور صدام حسين وتمكن من الهرب وعاش متشرداً. نام العراقيون في محطات المترو وعلى الأرصفة. لم تقام لهم مخيمات تؤويهم ولا معارضة تنتعش على أشلاء لحومهم. قبل النزوح الكبير في العام 2003 كانوا مجموعات بسيطة من النخب الهاربة. النخبة التي عرفت أن عيشها تحت ظل حكم العسكر ممزوجاً بأفكار البعث في بلد فسيفسائي القوميات، أمر مستحيل. هربوا أفراداً قبل أن يهربوا أفواجاً قبل موته بوقت قليل. كانت مأساتهم صامتة، لا تسمعها حتى الحيوانات، التي تسمع أنفاس الأرض. كتبوا كثيراً، الأحرى أن الشتات العراقي الأول. شتات الهاربين من جحيم الديكاتور الى الحرية. كان شتاتاً نخبوياً ومثقفاً أكثر منه شتاتاً جماعياً من بلد، الموت هو المسير الوحيد لدماء السلطة الاستبدادية في عروقه، غير أن الموت لاحقهم. ليس الموت الذي نعرفه من أفعال الديكتاتور، بل ذلك الموت البارد في المنافي، الموت غريباً، بمشاعر قاحلة، بقلوب متجمدة. الموت بعيد عن المكان الأول، عن مسقط الرأس هو أشد بمرات من الموت في كنف طاغية.
دفن العراقيون في بلاد كثيرة. كانوا يموتون في المنافي ويسقطون كأوراق من كتاب عتيق، ثم يحرقون أو يدفنون أو يختارون قبل موتهم مكان تربتهم الأبدية. عبد الوهاب البياتي دفن في دمشق الجواهري كذلك، كان يأتي الى بيروت يجلس قبالة البحر ويسترجع نخيل العراق. مات سركون بولص في ألمانيا وحرق في سان فرانسيسكو غريباً وحيداً بلا أي غصن من أغصان العراق يتلطى به. مات كثر ودفنوا وأصبحوا رمادا أكل ذكراهم النسيان والعراق لا يزال يئن ويتوجع. لكنهم تركوا إرثاً من الدم ومن الورق ومن لحومهم ومن ذاكرة البلد والمنفى.
ماتوا، نعم. لكن الطاغية مات أيضاً. لم يمت وحده، مات قبل أن يعدم. قتل على البطيء كما لو كان في فيلم يعود لبدايات السينما. مات هو وكوابيسه. من يذكره اليوم؟ من يضيء للشرير شمعة؟ لا أحد سوى أولئك الذين لا يزالون ذهنياً غارقون في عقلهم الماضوي. العقل لا يقبل، أحياناً، الواقع لذلك ينكفيء نحو ذاته نحو خزائنه المخلعة الأبواب.
(2)
ماذا تستقبل أوروبا اليوم؟
السوريون.
لماذا؟
لأن ثمة رجل مجنون يحمل سكيناً ويقتل أطفالهم.
الموت هو الموت. لكنه يكون بلا رحمة حين يكون بلا هدف، حين يصبحُ بلا ثمن واضح وصريح. السوريون يموتون هكذا. في حلب تنهال عليها بيوتهم، البيوت التي عاشوا فيها يموتون فيها، لا يموتون فرادى بل عائلات. في الساحل قتل سنةٌ لأنهم سنة. دخل عليهم علويون قيل أنهم من الأناضول وأبادوهم جميعاً نساءً وأطفالاً ورجالاً. الفتاة التي خرجت بعد إن احتمت في بئر البيت ووجدت أهلها جميعاً ممددون جاءت إلى أوروبا. قالت لي صديقتي الفرنسية التي كانت من ضمن الذين عملوا على استقبالها، أن الفتاة تعيش في عالم آخر. جاءت من الموت لكنها تعيش في ذاكرة الموت. ليست هي وحدها، أوروبا تنغل بالسوريين. الذين يصلون عبر السفارات يدخلون يعيشون لكنهم خارج وطنهم. لا أدري كيف يمكن لشخص هارب من الموت أن يعيش بعيداً من وطنه. المنفى الاختياري يضحي أهون بكثير من هذا النفي القسري، مع ذلك فالمنفى بلا قلب.
في الكتب التي يصدروها أو الأمسيات الشعرية التي يقيمونها أو حتى المسرحيات والفنون التشكيلية لا نشاهد سوى الموت. كان الموت حكراً على فلسطين فإذا به يمتد الى العراق وها هو يطل برأسه من سوريا. والأدباء يكتبون سيرته ويروون حكاياته قبل أن يتناقل على كل الألسنة. يكتبون من الغرب الذي لا يأبه لمأساتهم هناك. يستقبلهم نعم، لكنه يستقبلهم لكي يذوبهم في منافيهم وينسيهن بلادهم. الذين يأتون إلى هنا لن يعودوا، هذا هو المبدأ. تتحول دراماً حياتهم إلى متابعة أخبار بلادهم وقضاء أوقات طويلة على الهاتف ومثلها أمام الشاشات والتدخين وشرب الشاي وحديثاً دخلت النارجيلة إلى المشهد.
(3)
في قصة كتبتها شارلوت إكسلسن (فتاة عمرها ثلاثة عشر عاماً شاركت في مسابقة القصة التي تنظمها سنوياً شركة النقل المحلية في غرونوبل) قالت الفتاة: إنها في الصيف في الفائت ذهب برفقة أهلها إلى الدانمرك. هناك، التقت صدفة بعائلة سورية لديها أطفال يجايلونها. كانت تحدثهم بالفرنسية ولا يفهمون سوى العربية التي بدورها لا تفهمها. ركضوا خلف البقر في المزارع القريبة، عاشت معهم أياماً جميلة قبل أن تنتهي إجازتها وتعود إلى مدينتها. وتكتب القصة وتنشرها شركة المواصلات على محطات الباص والترامواي.
(في القرية التي كنا فيها، كانت عائلة مهاجرة من بلد اسمه سوريا، تعيش قربنا. الوالد يعمل في المزرعة والوالدة في البيت. وكان أطفالهم الثلاثة أصدقائي الجدد. لم أفهم عليهم ولم يفهموا عليّ فقمنا بوضع إشارات خاصة لكي نتواصل. كنا نلعب على العشب ونركض خلف الأبقار ونفتش على البزاق الذي يتكاثر في الصباح الباكر قبل أن يختفي تماماً، ولا ندري إلى أين يذهب. كان الأولاد خبراء في التعامل مع الحشرات. يعرفونها ويعرفون طرقاً مبتكرة لصيدها والاحتفاظ بها وتحنيطها. لكنهم لم يكونوا، رغم السعادة التي على وجوههم، سعداء. كان شيء ما يسرقهم في لحظات كثيرة من اللعب. يسهمون بشكل مفاجيء وأشعر أن ملامحهم تتبدل وتذبل وجوههم وأجسادهم. في المساء كنت كلما سألت والدتي تقولي لي أنهم جاؤوا من بلد يعمه الخراب ويسيطر عليه شبح الحرب والموت. كان الأطفال أصدقائي وأحببتهم وأدركت أني لا يمكن أن أعيش في بلد هكذا تملؤه الحرب والدمار. أغبطهم الآن بعدما تركتهم هناك يراقبون المزارع والحياة والأبقار وهي تكبر.. ويوماً ما سأستقبلهم في بيتي حتى لو لم أفهم لغتهم الأصلية).