أحيت المملكة العربية السعودية مع غيرها من الدول العربية يوم اللغة العربية بما مارسته الجهات الثقافية فيها وقليل من المثقفين من نشاط جيّد مقتصرٍ على إطلاق الكثير من الرسائل الهاتفية والمقالات الصحفية للإشادة بأمجاد اللغة العربية وفضائلها والتعبير عن حبّهم البالغ لها وربّما صحب ذلك قليل من الاحتفالات الخاطفة.
وهذه الجهود – مع ضآلتها وعدم كفايتها – تستحقّ الثناء والاحترام لأنها تعدّ من قبيل جهد المقلّ، لكن يغضّ من شأنها انتهاؤها بغياب شمس ذلك اليوم أو بأفول قمره، وكأنّ ذلك النشاط مصباح أضيء ثم أطفأه موقده، وليس جميلاً ولا نافعًا أن تقف الدعوة إلى إعادة اللغة العربية إلى نشاطها عند ساعات معدودات لأنّ ذلك سيؤدي إلى نسيانها والرجوع إلى الحال السابق، وهو ما كان الغيورون يشكون منه ويتمّنون زواله ونسيانه. يجدر بأهل العربية أن يكونوا أهلها في كل يوم لا في يوم يتيم، يجدر بهم أن لا يتخلوا عنها عامًا كاملاً إلا يومًا واحدًا
إذا كان حبّك للحبيب مزايِلاً
فأبغض بحبّ لا يطول ولا يدوم
وأمر آخر وهوذلك النشاط - في ما يبدو- لم يبنَ على منهج معدّ في ضوء خطط مدروسة، لذا جاء هذا النشاط عفوي الإعداد عليه سيماء العجلة فانحصر في يوم واحد انتهى مع آخر ساعة من ذلك اليوم ونسي معظمنا ما قيل فيه وما كُتِب وعادت الأمور إلى ما كانت عليه لم يظهر لذلك النشاط أثر ملموس.
وحتى لا أكون ممن يشخّص الداء وينسى العلاج أعرض ما ينبغي فعله لحماية هذه اللغة المظلومة بما تلقاه من العقوق ولتحيا حياة متألّقة المحيّا تنافس ضرّاتها النشِطة اللاتي تصارعها في كلّ ميدان بقدرات أهلها غير المحدودة وطاقاتهم العلمية والعملية.
تلكم القدرات والطاقات المدعومة بحبّ بالغ للغاتهم وحرص لا حدّ له على نشرها أتاحت لهم الفرص الكثيرة لينشروا لغاتهم بل ليفرضوها على غيرهم، ونحن العرب من بينهم حتى آل الأمر بنا إلى ظهور فئة مبهورة لا ترى وسيلة تمكنها من المنافسة وفئة أخرى تنظر إلى اللغة العربية نظرة المحتقر.
وأول ما يذكر في هذا الشأن الجامعات ووزارة التربية والتعليم، والحديث في أمرهما منه ما يخص الجامعات ومنه ما يعني الوزارة وآخر مشترك بينهما:
أما الجامعات فأقسام اللغة العربية فيها تتحمل مسؤولية معنوية نحو ما نسمعه ونراه من تدني الفصاحة في الألسنة وضعف الإملاء في الكتابة، ومرجع ذلك أنها لا تعطي مناهج اللغة العربية ما تحتاجه من الوقت الكافي الضروري للتدريب والتعليم مع أن الخطط قابلة لإتاحة الساعات التي تمكّن واضع مناهج اللغة العربية من توسيع المنهج ومضاعفة التدريب، بل إن في الخطط الحالية مقررات يمكن الاستغناء عنها أو عن بعض ساعاتها لأنها أعطيت أكثر من حاجتها، وليس لنا أن نستكثر ما نعطي لغتنا من الوقت لما نعانيه من العيّ المتأصل المزمن ولأنها لغة واسعة كثيرة الفروع متشعبة المسائل لا يتيّسر الإلمام بالضروري منها اللازم لتقويم القلم واللسان في وقت قصير، ولأن التدريب حاجة ماسّة عند القراءة والكتابة والمحادثة لا نجاح للعمل مع غيابه أو نقصه.
ومما لا يجوز نسيانه في هذا الشأن عند وضع المناهج الحرص البالغ على مراعاة الفرق بين مناهج المتخصصين ومناهج غيرهم فلكلٍ خصائصه وطبيعته.
ومهمة أخرى تُنتظر من الجامعات ألا وهي الدورات التدريبية للطُلّب من غير المتخصصين وللموظفين، ولتكن هذه الدورات منوّعة من حيث الأمد طولاً وقصرًا متتابعة دورة بعد دورة لإتاحة الفرص لجميع الراغبين بحسب إمكاناتهم وقدراتهم.
ومن المرغوب فيه أن تكون هذه الدورات مجانية حتى تستقطب أكبر عدد ممكن وحتى يقبل عليها أولئكم المترددون بين الإقدام والإحجام وحتى لا تكون الرسوم عامل صدّ يحتج به الزاهدون في لغتهم، بل أريد أكثر من ذلك : أتمنّى أن يكون ثمة حوافز معنوية ومالية للمشتركين بمجرد الاشتراك وللمتميِّزين منهم وأن تسبق هذه الدورات بدراسة دقيقة ينشأ عنها خطط مرحلية تضمن استمرارها وتبرهن على جدواها وتيسر سبل نجاحها.
ومما لا يستغنى عنه في هذه العملية أن يسبق الدورات نشاط إعلامي توجيهي يبصِّر المعنيين بها المدعوون إليها بجدواها وما يعود عليهم من الالتحاق بها من الفوائد القيِّمة معنوية ومادية، فذلك له أثره وتأثيره.
أما وزارة التربية والتعليم فيعنيني من أمرها التعليم العامّ لأنه ركن ركين من أركانها وله من الانتشار ما يمكنه من القيام بقسط كبير من عملية نشر الفصحى، والحديث عنه ذو جوانب أحدها المعلم :
وسأقتصر عليه لأنه الركن الأساس في التعليم العامّ
تقول الحكمة: أعطني معلمًا كفؤاً ودع ما عداه.
الحديث عن المعلم له جوانب شتّى، سأختار منها ما يتّصل بموضوع هذا المقال ألا هو وجوب عنايته بفصاحة لسانه وسلامة خطّه لأنّ لذلك تأثيرًا بالغًا على تلاميذه، ولن نستطيع العثور على العدد الّذي نحتاجه من المعلمين الفصحاء بالدرجة المرغوب فيها لسعة ميدان التعليم ولأنّ هذا الوصف لا يخصّ معلمي اللغة العربية بل يتعيّن تطبيقه على جميع المعلمين.
من هنا ينتظر من القائمين على التعليم المنوط بهم أمره والإشراف على معلميه البحث عن الوسائل التي تعين على تحسين فصاحة اللسان، وهي كثيرة أذكر منها:
أ- حثهم بإلحاح على الإكثار من قراءة الفصيح الجيد من كلام الفصحاء نثرًا وشعرًا وحفظ ما يقدرون عليه من ذلك، فإنه جدير بأن يطبع ألسنتهم بطابع الفصاحة الراقية، وهذه وسيلة مجربة نافعة ناجحة، وكان العرب قديمًا يمارسونها مع أولادهم وكان المرموقون من الشعراء يفعلون ذلك ويوصون به.
ب- إقامة دورات متتابعة قصيرة المدّة ومتوسطتها لمعلمي اللغة العربية لتجديد معلوماتهم في النحو والتصريف وتنميتها تعنى بالقواعد والأصول وتهتم بالتطبيق، لا تفريط ولا تقصير في النوعين، فتلكم ضرورة ماسة وحاجة ملحّة.
ليس حسنًا ولا مرضيًّا أن يبقى المعلم جامدًا على آخر ما تلقّاه في كليته يوم تخرج، فذاك عامل مؤثر من عوامل النسيان وتطاير المعلومات، فالعلم كالماء إذا طال مكثه أسن وتبخر شيئًا فشيئًا.
ج- إعداد دورات أخرى لمعلمي المقررات الأخرى غير مقررات اللغة العربية للغرض المذكور نفسه لكن على نمط مغاير لدورات زملائهم موافق لحالهم ومقدار تحصيلهم مطبّق على المناهج الّتي يتولون تدريسها، فهم في حاجة إلى تقويم اللسان ولهم إسهام في تقويم ألسنة تلاميذهم.
د- الدقة الدقيقة في متابعة الطُلّب في قراءتهم وكتابتهم وتصحيح كل ما يبدو فيهما من اللحن والخطأ ؛ لأن إهمال ذلك أو التهاون به سيؤدي إلى تسليمهم بصحته واعتياده إذ لوكان خطأً لم يتركهم معلمهم يقعون فيه وهو يدري.
قد يجد المعلم مشقة في هذه المتابعة، لكن عليه أن يحتسب ويتذرع بالصبر فهذا واجبه وهو مسؤول عنه محاسب من ربه في المقام الأول، وحسابه شديد دقيق، فالله الله في حفظ الأمانة.
هـ- إيقاظ ذوي الضمائر النائمة وتنبيههم إلى أنهم يحملون الأمانة الّتي أبت السماوات والأرض والجبال أن تحملها وأشفقت منها، وذلك بمتابعة التوعية والتوجيه حتى يعطوا هذه الأمانة حقها من العناية والقيام بها على الوجه الّذي يرضاه الله في جميع واجبات التعليم ومن بينها الاهتمام التامّ بتنمية الفصاحة لدى تلاميذهم وحملهم بالحسنى على التزامها كل ما دعت الحاجة إليها عن رضًا واقتناع، وعلى المعلمين أن يعطوا هذه القضية ما ينبغي لها من الجد وعدم التهاون بها.