رغم بشاعة الموت المجاني الذي يتغلغل في مفاصل الحياة اليومية للشعب العراقي والذي أجادت في نقله رواية الكاتب العراقي أحمد سعداوي الفائزة مؤخرا بجائزة بوكر العربية في دورتها السابعة «فرانكشتاين في بغداد»، دار الجمل2013، حيث تنقل الرواية مشاهد الموت المجاني بفعل التفجيرات بدقة وحرفية متناهية تجعلك تعيش في عمق الحدث الدرامي، بيد أن القارئ يشعر بأن الموت كتب في هذه الرواية بدم بارد جعل تلقيه يأتي أقل سخونة وانفعالا مما يجب. وربما الأمر لا يعود فقط إلى مزاج حالة الكتابة لدى الكاتب، وإنما قد يكون أيضا نتيجة هيمنة حضور فعل الموت لدى الشعب العراقي بجرعات زائدة كما ضختها سطور الرواية.
فالرواية تنسج أحداثها منذ البدء برسم شخوص هم من الأساس موتورين بفعل آلة حرب حصدت العديد من الشباب مخلفة الكثير من الأمهات الثواكل كما هو حال شخصية أم دانيال المرأة المسيحية التي تعاني بشكل مكثف من فقد ابنها الوحيد دانيال الذي زجه مطارد الشباب الفارين من التجنيد في أتون الحرب الطاحنة كما زج بسليم ابن أم سليم البكر قبل عشرين سنة أيضا، وإن اشتركت أم سليم مع أم دانيال في مأساة الثكل بيد أن مأساة أم دانيال تختلف في كونها مركبة فهي تنتظر عودة ابنها وترفض التصديق بموته، ومن هذه الثغرة تحديدا تتقاطع أم دانيال في مقتبل الأيام مع الكائن البشع «الشسمه» بعد أن تقوم بإيوائه ظنا منها بأنه ابنها دانيال، كما أنها أرملة وأم مسنة وحيدة هاجرت عنها ابنتيها للغرب، وهي متهمة كذلك بالخرف. وإن كان وجودها رغم مأساويته المزدوجة يمثل جانبا جمالي في عقد أحداث الرواية الحالكة، فرغم السوداوية المخيمة على أجواء النص ثمة جانب حياتي في الواقع العراقي لا يزال يضيء، وهو قدرة كثير من أبناء هذا الشعب على التعايش وقبول الآخر حتى مع الأقليات التي قد تبدو قصية عن النسيج العام للمجتمع مثل السومريين والبابليين والصابئة.
وفي مقابل الحضور القوي البشع لفعل الفقد والموت، فإن فعل الفرح في الحياة اليومية لشعب بطبيعته عاشق للفرح يحضر كما تصوره الرواية باعتباره فعل طارئ سرعان ما يغتاله سهم الموت الدامي بفعل تفجيرات عبثية ألفتها منعطفات وشوارع العراق، كما حدث مع حارس الفندق الشاب الذي سكنت روحه الهائمة التي انفلتت من عقالها مخلفة زوجة شابة وطفلة بعد تفجير انتحاري بعربة نفايات استهدف الفندق الذي يعمل على حراسته الشاب لتسكن روحه الحائرة فيما بعد جسد الكائن البشع «الشسمه»، و الذي صنعه دون هدف واضح هادي العتاك عبر تجميع أشلاء قتلى التفجيرات في شوارع بغداد.
وعند الاستغراق في قراءة الرواية ، يتلمس القارئ خطوط التقاطع بين شخصية رواية «فرانكشتاين» للكاتبة ماري شيلي في روايتها «فرانكنشتاين»، ومخلوقه البشع، ورواية سعداوي «فرنكشتاين في بغداد» ومخلوقه البشع»الشسمه»، فإزاء شخصية بطل رواية شيلي الطالب الذكي فيكتور فرانكنشتاين الذي يكتشف في جامعة ركنسبورك الألمانية طريقة يستطيع بمقتضاها بعث الحياة في المادة فيأخذ في محاولة تركيب جسد إنسان وينتج عن عمله ذلك مخلوق ضخم بشع غاية في القبح، ما يلبث أن يهرب من مختبر الجامعة، ليعيث بين معارف صانعه قتلا، ولا يتوقف إلا بموت صانعه، أما في رواية سعداوي لا تأتي محاولة الصنع على يد طالب أو عالم أو في مختبر فهذه رفاهية لا يمكن كما يبدو سحبها وإسقاطها على واقع العراق ، وإنما للموت الغادر يده الطولى وصنيعه، لذا يتشكل وحش العراق على يد فرانكشتاين عراقي لا يشبه أبدا فرانكشتاين الغرب ففرانكشتاين العراق ويدعى هادي العتاك وهو بائع عاديات في أحد أحياء وسط بغداد، رجل خمسيني مأزوم لا يتجاوز طموحه تلبية احتياجاته اليومية وإشباع غرائزه ، كما أنه فاقد للصدقية وغائب في غالبية أوقاته عن الوعي بفعل حالة السكر في محاولة هروب ونسيان واقع صعب فقد على أثره أعز أصدقائه. وفي خربة مهدمة معروفة بخربة اليهود.
وكما هرب وحش فرانكشتاين شيلي يهرب وحش هادي، وكما يعيث الأول في المكان قتلا يعيث الثاني في المكان قتلا كذلك. بيد أن المفارقة أن وحش العراق في محاولة إسقاط لاذعة وساخرة تدخل ضمن الكوميديا السوداء، تحتضنه وترعاه يد الفقد والثكل المتعطشة لعودة شباب مغدور.
ولا تقتصر الكوميديا السوداء على هذا الجانب فقط من الرواية وإنما يسري ليشمل معظم جسد النص، فخيوط الرواية تم جدلها بشكل جعل منها لحمة واحدة يتقاسم شخوصها مصيرا وطني ملغوم مشترك. فيما يتصارع عدد من شخوص الرواية في سبيل الحصول على حصة من غنيمة وطن يتداعى تمثله البيوت المهجورة، التي لازال بعضها رغم تداعي بعض أركانه كما هو الحال مع بيت أم دانيال شاهدا على حضارة إنسانية عريقة.
والكاتب سعداوي من مواليد بغداد عام 1973 وهو أيضاً شاعر وكاتب سيناريو يعمل في إعداد البرامج والأفلام الوثائقية كما أنه فنان تشكيلي ومصور فوتوغرافي. صدر له، إلى جانب روايته المتوّجة، ديوان شعري بعنوان «عيد الأغنيات السيئة» (دار ألواح، 2001)، وروايتان: «البلد الجميل» (دار الشؤون الثقافية، 2004) التي حازت «الجائزة الأولى للرواية العربية» عام 2005، و»إنه يحلم أو يلعب أو يموت».